إسلام جحا - خاصّ الفجر
في ظلّ الانهيار المالي المستمر، يعود
مشروع قانون "الفجوة المالية" إلى الواجهة بوصفه أحد أكثر النصوص التشريعية
إثارةً للجدل، لما يفتحه من مواجهة مباشرة بين الحكومة والقطاع المصرفي، وصلت حدّ التلويح
بإضراب عام في الأيام القليلة المقبلة.
قانون لإدارة الانهيار لا لإنهائه
وفق قراءات قانونية واقتصادية متقاطعة،
لا يبدو مشروع "قانون الفجوة المالية" تشريعًا إنقاذيًا بقدر ما هو إطار
قانوني لإدارة الانهيار القائم وتوزيع خسائره. فبدل أن يقدّم خارطة طريق لاستعادة الودائع
وإعادة بناء الثقة بالنظام المالي، يذهب إلى إقفال أزمة ممتدّة منذ سنوات عبر شطب منظّم
للخسائر، حتى لو جاء ذلك على حساب المودعين والقطاع المصرفي.
جوهر المشروع يقوم على خيار سياسي واضح:
نقل العبء الأساسي للأزمة من الدولة والسلطات النقدية إلى المصارف والمودعين، في مقاربة
منسجمة إلى حدّ بعيد مع شروط وتوجّهات صندوق النقد الدولي، والتي تتعامل مع الأزمة
اللبنانية بوصفها نموذجًا يجب "ضبطه" لا استثناؤه.
إعفاء الدولة وتحصين المصرف المركزي
من خلال قراءة مواد المشروع، يتبيّن
أن الدولة تخرج عمليًا من دائرة المحاسبة. فالقانون لا يفرض أي مساهمة إلزامية من الخزينة
في تغطية الخسائر، ولا يحمّلها مسؤولية مباشرة عن السياسات المالية والدين العام اللذين
سبقا الانهيار. ويكتفي بالاعتراف المبدئي بوجود دين مترتّب على الدولة لصالح مصرف لبنان،
على أن يُحدَّد حجمه لاحقًا بما يراعي ما تسميه الحكومة "استدامة الدين العام"،
أي وفق قدرة الدولة لا وفق حجم الضرر الفعلي.
في المقابل، يحصل المصرف المركزي على
حصانة شبه كاملة. فالمشروع يتجنّب تطبيق النص القانوني الذي يُلزم الخزينة بتغطية خسائره،
ويحوّل هذا الإلزام من واجب قانوني صريح إلى خيار سياسي، ما يعني عمليًا تحصين المصرف
المركزي من أي مساءلة مالية مباشرة عن سياساته السابقة.
تحميل المصارف والمودعين الكلفة
مع إعفاء الدولة وتحصين المصرف المركزي،
تنتقل الكلفة تلقائيًا إلى المصارف والمودعين. فالقانون ينصّ على أن الودائع التي تتجاوز
مئة ألف دولار لا تُعاد نقدًا، بل تُحوَّل إلى شهادات طويلة الأجل صادرة عن مصرف لبنان،
تمتدّ آجالها إلى 10 أو 15 أو 20 سنة، ومدعومة بأصول غير واضحة القيمة أو الإيرادات.
عمليًا، لا يعني ذلك استردادًا للودائع،
بل استبدال حقّ الملكية بأداة مالية مجهولة المصير، من دون ضمانات فعلية أو آليات شفافة
لتقييم الأصول أو تحديد مصادر السداد. ويُضاف إلى ذلك إعادة فتح ملف التحويلات والفوائد
التي جرت بعد عام 2019، والتعامل معها وكأنها مشبوهة، رغم قانونيتها في حينه، ما يشكّل
مساسًا مباشرًا بالحقوق المكتسبة ومبدأ عدم رجعية القوانين.
تهديد وجودي للقطاع المصرفي
هذا المسار لا يضرب المودعين فحسب،
بل يطاول بنية القطاع المصرفي نفسها. فالقانون يبدأ عمليًا بشطب رساميل المصارف، ثم
يطالبها بإعادة الرسملة، وفي الوقت نفسه يحمّلها جزءًا من كلفة الشهادات الطويلة الأجل.
وهي معادلة ترى فيها المصارف حكمًا مسبقًا بالإفلاس، لا برنامج إعادة هيكلة قابل للحياة.
التلويح بالإضراب: نقطة الانفجار
في هذا السياق، تتجه المصارف نحو تصعيد
تحرّكها الاعتراضي. فبحسب المعلومات، تكثّف جمعية المصارف اجتماعاتها واتصالاتها الداخلية،
وسط اتجاه جدي لإعلان إضراب عام في الأيام المقبلة، رفضًا لمشروع القانون المدرج على
جدول أعمال مجلس الوزراء.
وترى المصارف أن الصيغة الحالية للمشروع
تشكّل تهديدًا وجوديًا، لا نقاشًا تقنيًا. فالقانون، من وجهة نظرها، لا يعالج الأزمة
من زاوية إنقاذية، بل يشرّع شطب الودائع وضرب الرساميل، ويفتح الباب أمام إفلاس جماعي
للقطاع، مقابل إعفاء الدولة ومصرف لبنان من تحمّل مسؤولياتهما الأساسية.