يشيع
المزاح حول ترتيب الإخوة وارتباطه بشخصياتهم؛ الامتياز الذي يتمتع به الشقيق الأكبر
سنا واستبداده، والاضطهاد الذي يكال لأوسطهم، والدلال الذي ينعم به أصغرهم. فهل في
هذا الهزل طرف من الحقيقة؟ أيعقل أن يؤثر موقعك بين أشقائك على شخصيتك؟ كيف لا وقد
كانت مكانة عالم النفس "ألفرد أدلر" كابنٍ ثانٍ يرجو لو يملك حظوة أخيه الأكبر
عند أبويه كفيلة بإثراء شخصه ودافعا له لوضع أشهر نظرياته.
في
ضواحي فيينا بعد ولادة "أدلر" عام 1870 وتوالي الأعوام وبلوغه الأربع سنوات
وتعافيه من الكساح والالتهاب الرئوي، قرر أنه لا بد أن يصبح طبيبا عله يتحصن بذلك من
المرض(1). في تلك الأحيان، كانت قد تكونت لديه عادة التطلع إلى شقيقه الذي يكبره (سيغموند)
وعقد مقارنات خفية مستمرة بينهما، لِمَا جانبه من إحساس بالدونية والغيرة؛ فبينما كان
عليلا راقدا في سنواته الأولى كان أخوه بصحة سليمة ويلهو في الأرجاء. في كتاباته، يصف
يوما بصحبة عائلته على الشاطئ: "يمكنه الجري والقفز والتنقل دون عناء، أما أنا
فكان من شأن أي حركة أن تجهدني".
تمددت
تلك المقارنة إلى مستقبله الوظيفي، إذ عاصر المعالج النفسي العتيد "سيغموند فرويد"
الذي حاز على شهرة جعلت عددا ممن خلفوه يقبعون في ظله، فقورن أدلر أحيانا بفرويد رغم
خلافه العلني معه في بعض نظرياته وتأسيسه لجمعية علم النفس الفردي (Society
for Individual Psychology)(2). اعتقد أدلر أن كل سلوك بشري مدفوع بالرغبة
المطلقة في التفوق التي تحركها مشاعر النقص أو الدونية. إننا جميعا نملك بعضا من تلك
المشاعر المتصلة بالجانب الاجتماعي أو النفسي. يخبرنا أدلر في نظريته أن الجوانب الاجتماعية
والمجتمعية لحياة الشخص لا تقل أهمية عن أفكاره وعواطفه الداخلية، ليمتد اهتمام أدلر
ليشمل نمو الطفل ونظرية ترتيب الميلاد (Birth Order
theory).
نعم
توجد العديد من العوامل التي يمكن أن تسهم في شخصية الطفل، كالحالة الاقتصادية وهيكل
الأسرة والتبني والأضرار العقلية أو الجسدية وغيرها، يتفق معظم علماء النفس مع أدلر
على أن الأطفال لديهم سمات شخصية فريدة خاصة بهم اعتمادا على ترتيب ميلادهم.
تنص
نظرية أدلر حول ترتيب الميلاد على أن موقع الفرد في عائلته سيؤثر على حياته وتطور شخصيته،
وهو ما اعتنقه كثير من علماء النفس، كالدكتور النفسي "كيفين ليمان" الذي
درس ترتيب الميلاد منذ عام 1967 وألف كتاب "ترتيب الولادة: لماذا أنت على ما أنت
عليه"، وأكد فيه أن سر الاختلافات الشخصية بين الأشقاء يكمن في ترتيب الميلاد
وكيف يتعامل الآباء مع أطفالهم بشكل مختلف بناء على ما إذا كانوا أكبرهم أو أوسطهم
أو أصغرهم أو طفلهم الوحيد(3)(4).
وذهب
بعض الباحثين إلى أن ذلك قد يؤثر أيضا على الصحة، إذ تشير دراساتهم إلى أنه إذا كنت
أكبر سنا فمن المرجح أن يكون وزنك عند الولادة أقل من وزن إخوتك. يشرح أدلر كيف تلعب
البيئات والديناميكيات الأسرية دورا في تكوين الطفل، وإن اختلفت الأسر، لوجود أوجه
تشابه عامة بين تفاعلات الوالدين مع أطفالهم، وكذلك الأشقاء فيما بينهم.
وقد
أتى أدلر على ذكر ترتيب الولادة النفسي أو وضعك المتصور داخل أسرتك واعتباره أكثر أهمية
من الترتيب العددي للولادة والذي يمكن أن يكون مختلفا في بعض الأحيان، كأن يكون الطفل
متوسطا ولكنه يتحمل مسؤوليات الطفل الأكبر بسبب إعاقة ما أو لثقافة الأبوين ورؤيتهم
وخلفيتهم الاجتماعية، ففي بعض الثقافات، حتى لو ولد الصبي بعد أربع فتيات، فقد يظل
يُعامَل على أنه الأكبر.
ويلاحظ
أدلر أنه إذا كان فارق العمر لدى الأطفال يتعدى الثلاث سنوات، فقد تتشكل مجموعات فرعية
ذات ديناميكيات مختلفة(5). يتفق معظم الخبراء، لكنهم يضفون أن الفجوة العمرية هي خمس
سنوات، وأن التوائم غالبا ما يحظون باهتمام خاص من الوالدين، لذا ينوه الخبراء إلى
أن هذه القواعد لا تنطبق بالضرورة على جميع الفئات، وأن ترتيب الميلاد، وإن ساعد في
تشكيل الشخصية، فإنه ليس العامل الوحيد.
يستخدم
العديد من المعالجين النفسيين هذه النظرية اليوم، لكن هل هي مبنية على أساس علمي؟ فيما
يلي نظرة فاحصة على الحقيقة والعلم وراء ترتيب الولادة. دعنا نلقي نظرة فاحصة على نظرية
ولادة أدلر ونرى السمات التي يعتقد أنه يمكن ربطها بترتيب الميلاد.
الأخ الأكبر
يغدق الأبوان على الطفل الأكبر سنا
الاهتمام، يكونان أكثر حرصا بكل ما يتعلق بتربيته. ويتوجس الطفل من ولادة أخيه الثاني،
إذ يجد نفسه مجبرا على مشاطرة والديه الاهتمام بالمولود. وفي حال تضاءل الفارق الزمني
بينهما عن الثلاث سنوات لن يكون قادرا على فهم ما استجد وإن شُرح له مرارا بالكلمات
أو المفاهيم، فيصعب عليه تقبل الوضع، وينظر بعداء تجاه شقيقه الأصغر لكونه مَن تسبب
في خلعه عن العرش.
عادة ما يكون الطفل الأكبر سنا مطيعا،
وحذرا، ومنظما ومحافظا، وذا علاقات محدودة، وعلى قدر كبير من الجدية، ومهيمنا في الأوساط
الاجتماعية، معرضا للعصابية (Neurosis)، أو الكآبة والقلق الناشئين من التركيز غير الصحي على نواقص الإنسان،
أو الاعتقاد الخاطئ بتفوقه على من سواه(6). يعزو أدلر هذا إلى فقدان الطفل اهتمام الوالدين
الكامل، ومحاولة تعويض ذلك من خلال العمل على استعادته.
يلقي عليه الوالدان توقعات عالية حقا،
وربما يمسيان أكثر صرامة معه، مطالبين بأن يكون قدوة ويتحمل مسؤولية إخوته الصغار.
يتنقل ذلك الطفل من كونه طفلا وحيدا إلى أكبر طفل، فيجد نفسه مضطرا لتعلم كيفية المشاركة.
هذا ما يجعل الطفل يتجه إلى نهج سلطوي وصارم، يشعر فيه بأنه مسؤول عن الأشقاء الآخرين،
ومن ثم يشعر بأنه مسيطر. يميل هذا الطفل إلى أن يكبر ليكون قياديا ويتبع القواعد، لكنه
يبدو أيضا ذا موقف متسلط.
تلك المهارات القيادية قد تجعل منه
رائدا في عمله. ففي منتصف التسعينيات قام عالم النفس الأميركي فرانك ج سولاوي بتمشيط
كتب التاريخ بحثا عن شخصيات بارزة من البكر والمتمردين الذين ولدوا فيما بعد، فرأى
من بين المواليد المتأخرين مفكرين وثوريين من مثل تشارلز داروين وكارل ماركس والمهاتما
غاندي. واكتشف بين البكر قادة مثل جوزيف ستالين وبينيتو موسوليني.
يخامر الأخ الأكبر غالبا خوف شديد من
الفشل، ينشد الكمالية والمثالية ونزعة للتفوق، ولأنه يخشى ارتكاب زلة غير مرن ولا يحب
التغيير فإنه يتردد في الخروج من منطقة راحته. يميل أيضا إلى إكمال تعليمه بدرجة أعلى
واختيار المهن تقليدية مرموقة، مثل الطب أو الهندسة. في إطار مجهوداته لإرضاء الآخرين.
الأخ الأوسط
يجد المولود الثاني أن الابن الأكبر
يحظى بانتباه والديه فتنتابه شعور بأنه مهمل ومستبعد وغير محبوب وأن الحياة غير عادلة
فهو لا يفقد مكانته كالطفل الأصغر سنا فحسب، لكنه لا يتمتع بحقوق ومسؤوليات الأخ الأكبر
أو امتيازات الأصغر. فينظر إلى شقيقه الأكبر سنا كنموذج يحتذى به، محاولا مواكبته والتنافس
معه لجذب الانتباه إليه ولأجل شعوره بالحاجة إلى إثبات قيمته الذاتية يقاتل من أجل
الأهمية والامتياز وغالبا ما يدوم هذا التوجه في حياته المهنية بعمله بكد أكثر ممن
حوله ليكون الأفضل لكنه قد يضع لنفسه أهدافا غير واقعية، تقوده للفشل النهائي. ليؤدي
ذلك ربما إلى العصابية في وقت لاحق من الحياة.
وقد وجدت إحدى الأبحاث في مجلة الموارد
البشرية عام 2016 أن الآباء بالفعل لا يقدمون للأطفال المولودين في وقت لاحق نفس الدعم
المعرفي الذي يقدمونه للأبنائهم البكر. في ذات السياق يكون الابن الأوسط متعاون ومرن
ويسعى لارضاء من حوله وذو قدرة على التنازل وإن رفض التساوي بإخوته الذين يصغرونه ما
جعل علماء النفس يصفونه بحمامة السلام (7)(8). كما يستمتع بالتفاوض والمساومات وعلى
الأغلب فإنه يتواصل مع أشخاص من مختلف الأعمار بسهولة. كل ذلك يجعل الطفل يطور موقفا
شديد السواد والبياض مما يجعله نافد الصبر وأكثر اتزانا وتمردا في وقت واحد وعلى الأرجح
الأكثر استقلالية بين أشقائه.
الأخ الأصغر
يلقى الطفل الأخير عناية زائدة من والديه،
إذ يكون معظم إخوته الأكبر سنا قد وصلوا إلى مراحل نمو مختلفة في الحياة، ولم يعودوا
يعتمدون على أبويهم في كل شيء. وفي كثير من الأحيان يظهر بقية أفراد الأسرة مسؤولية
تجاه أصغرهم مما يؤدي بهذا الطفل إلى الرغبة في النمو بشكل أسرع والتحكم بشكل أكبر
في حياته، وأن يصبح أكثر استقلالية (9). لكن تلك الرعاية قد تفسد الطفل الأصغر وإن
تمتع بحريات لم يتمتع بها أشقاؤه الأكبر سنا.
من المحتمل أن يكون الطفل الأصغر معاديا
للأشقاء الأكبر سنا، وقد يطور الأخ الأصغر طرقا خاصة به لجذب الانتباه، فتميل العائلة
أحيانا بشكلٍ مُفرِط إلى أن يكون الطفل الأصغر متأكدا من مكانته في العائلة وربما مبدعا
ومتمردا ومنفتحا اجتماعيا: لا عجب إذن أن العديد من الممثلين والكوميديين المشهورين
هم الأصغر في عائلاتهم. ولذا نجد الطفل الأصغر في الغالب مُحبِّ للمرح ويسترعي الانتباه
وربما نشعر بأنّ الطفل الأصغر أناني أكثر من الّلازم، وعادة ما يكون مُغامرا ومُخاطِرا،
وقد يكون الأبناء الأوائل ذوي الروح الحرة أكثر انفتاحا على التجارب غير التقليدية
والمخاطر الجسدية أكثر من إخوتهم.
الطفل الوحيد
التصنيف الرابع الذي وصفه أدلر هو الطفل
الوحيد الذي يعرف بأنه طفل ليس له أشقاء. نظرا لعدم وجود منافسين أشقاء فإنه ينعم بكامل
الاهتمام من والديه طوال فترة تربيتهم وغالبا ما يتم تدليلهم يمكن أن يؤدي ذلك إلى
الشعور بالاستحقاق والتبعية حتى عندما تكون خارج الأسرة. لكن، قد يشعر بعض هؤلاء الأطفال
فقط بالاختناق بسبب الانتباه من عائلاتهم ويسعون إلى الاستقلال والحكم الذاتي.
المصدر: سلمى نبيل/ الجزيرة.