رفيق خوري
ليس قليلاً ما تكدس من أحمال ثقيلة على العلاقات اللبنانية - السورية منذ ما قبل سايكس - بيكو حتى اليوم. بعضها يعود إلى أيام الإمارة ثم القائمقاميتين ثم المتصرفية ذات الحكم الذاتي برعاية الدول السبع الكبرى، حيث كان جبل لبنان يعاني التنافس على النفوذ والمال بين والي دمشق ووالي عكا. وبعضها الآخر خلال الانتداب الفرنسي الذي هندس دولة لبنان الكبير ودولة سوريا بعد سقوط السلطنة ودخول الجنرال غورو إلى دمشق وإسقاط حكم الملك فيصل. عشية الاستقلال كان الوطنيون السوريون يلومون الوطنيين اللبنانيين على التخلي عن الوحدة، واعترض جميل مردم بك على عضوية لبنان في الجامعة العربية، لكن رئيس الوزراء المصري النحاس باشا حسم الأمر لمصلحة لبنان.
بعد الاستقلال عاش البلدان مرحلة من العلاقات الأخوية أيام الرئيسين بشارة الخوري وشكري القوتلي إلى أن أعلن خالد العضم "القطيعة " الاقتصادية عام 1950. في الخمسينات اقتربت سوريا من الشرق السوفياتي وبقي لبنان يميل إلى الغرب الأوروبي والأميركي، فتكرر اتهام بيروت بأنها مطبخ "المؤامرات الغربية" ضد النظام السوري. مع أن لبنان أعلن في البيان الوزاري لحكومة الاستقلال الأولی برئاسة رياض الصلح أنه يرفض أن يكون "مقرًا أو ممرًا" لما يؤذي سوريا والأشقاء العرب.
خلال الوحدة المصرية - السورية دعم الرئيس جمال عبد الناصر فريقًا لبنانيًا ضد فريق آخر في أحداث 1958 قبل أن يتفق مع الموفد الأميركي روبرت مورفي على اختيار قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب للرئاسة ثم يهندس معه العلاقات في لقاء الخيمة على الحدود الللبنانية - السورية. أما حكم البعث
الذي دام من العام 1963 إلى العام 2024، ولا سيما خلال انفراد الرئيس حافظ الأسد بالسلطة وتوريثها إلى نجله بشار، فإنه تدخل في حرب لبنان بشكل غير مباشر ثم مباشرة، وحكم وتحكم بحيث كان المنصب مع رئيس الجمهورية في قصر بعبدا والسلطة مع المسؤول عن المخابرات العسكرية السورية في عنجر. وأما انخراط "حزب الله" في حرب سوريا دفاعًا عن الأسد، فإنه أحدث مشكلة مع السوريين الذين عارضوا الأسد وهم الأكثرية.
اليوم تغيّر اللاعبون واللعبة. ففي لبنان رئيس جمهورية ورئيس حكومة من خارج التركيبة الموروثة من تحكم آل الأسد. وفي سوريا الجديدة إدارة أسقطت نظام الأسد ونقلت سوريا إلى الانفتاح علی أميركا والغرب، وأعادتها إلى موقعها العربي الأصيل. فالرئيس أحمد الشرع يريد أن تكون العلاقات من دولة إلى دولة ويرفض ما كان من علاقات سورية مع الأحزاب والقوى والشخصيات بعد عقود من إدارة دمشق للبنان بالجملة والمفرق. والفرصة مفتوحة لبناء أفضل العلاقات بين البلدين.
لكن الأمور ليست سهلة بعد التعقيدات التي تراكمت من زمان. فالعاصمة السورية تصر على ربط كل شيء بالبدء من حل موضوع ليس بسيطًا من الناحية القانونية ويحتاج الى اتفاق قضائي وقرار سياسي هو تسليم 2600 سجين سوري في لبنان لنقلهم إلى دمشق. وبعضهم اعتدى على الجيش اللبناني وقتل أفرادًا منه. وهناك اتفاقات مجحفة بحق لبنان في حاجة إلى مراجعة وإعادة نظر وتغيير أو إلغاء كما حدث للمجلس الأعلى اللبناني - السوري. والوقت حان لأن تخرج بيروت من كابوس الهيمنة السورية أيام الوصاية، للقاء مع دمشق على أرض الواقع من دون غرق في الأحلام. وحان أيضًا لأن تنعم سوريا بنظام ديمقراطي ومشاركة الجميع في إدارة البلد بعد عقود من نظام شمولي قضى على مرحلة ذهبية قصيرة من الديمقراطية والحياة الحزبية هناك. فلا سوريا الجديدة قابلة لأن تكرر أخطاء الماضي حول التدخل في الشؤون الداخلية للبنان والأردن والعراق وسواها. ولا لبنان "غلطة تاريخية" كما يقول البعض أو "غلطة جغرافية" كما يقول البعض الآخر.
و"إذا كنت تستطيع حل عقدة بأصابعك فلماذا تفكها بأسنانك" كما يقول مثل إيراني.
صحيفة نداء الوطن