واشنطن تشارك تل أبيب احتلال القطاع _ محمود الريماوي


محمود الريماوي

من الطبيعي ألّا يلقى مشروع القرار الأميركي المقدّم إلى مجلس الأمن حماسةً تُذكر من دول عديدة في عالمنا، ومنها الدول العربية والإسلامية المعنية مباشرة بالوضع في غزّة. ذلك أن مشروع القرار هذا، والذي يُتداول وتعديلاته منذ نحو أسبوع، محكوم برؤية أميركية واسعة تشكو من اختلالات جوهرية. وأول هذه الاختلالات اعتبار قطاع غزّة أرضاً يتنازع السيادةَ عليها أكثرُ من طرف، بما ينزع منها هُويَّتها الفلسطينية الممتدّة عبر قرون، وأنها جزءٌ من أرض أوسع تشمل الضفة الغربية المحتلة. ووفق هذه النظرة الأميركية التي تسترجع نظرةً استعماريةً قديمةً، فإن أبناء القطاع لا يقرّرون مصير هذا الجزء المهمّ من الأرض الفلسطينية، مع وعود مبهمة لهم بأن يتم ذلك في "المستقبل" وفقاً لتفاهم أميركي إسرائيلي. وهو ما يفسّر امتناع إدارة ترامب عن إجراء أيّ مباحثات مع الجانب الفلسطيني باستثناء اتصالات جانبية متقطّعةٍ منخفضة المستوى، ذلك أن الأميركيين ومعهم حكومة نتنياهو يدركون كما يبدو مصلحة الفلسطينيين أكثر من هؤلاء أنفسهم.

ومع إنكار أن غزّة أرض فلسطينيةً، وأن أبناءها وممثّليهم هم من يقرّرون مصيرها، فإن مشروع القرار الأميركي يراعي في كل سطر منه المؤسّسات الإسرائيلية، من الحكومة إلى جيش الاحتلال إلى الشاباك، وهذا هو الاختلال الثاني في مشروع القرار. فموعد الانسحاب من القطاع غير محدد، ومتروك لتقدير القوة الغاشمة التي ارتكبت حرب إبادة شنيعة في مدار عامَيْن. ولهذه القوة أن تحتفظ بوجودٍ "مؤقّتٍ" يطوّق القطاع من جميع الجهات، وذلك مقابل شرطة فلسطينية تنفيذية تخضع لقوة الاستقرار ولـ"مجلس السلام". وبينما يُطلَب من السلطة منذ سنوات إجراء إصلاحات جوهرية غير محدّدة، فإنه لا يُطلّب من حكومة نتنياهو مراجعة سلوكها وإصلاحه، وتغيير النظرة العنصرية المتوحّشة إلى أصحاب الأرض، إذ إن السلوك الإسرائيلي خلال العامَيْن الماضيَّيْن لا تشوبه شائبةٌ، والعالم كلّه، بما فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة، يقرّ بذلك على الدوام.

ولهذا، فإن هيكلية الإجراءات التي ستتّبع، تكافئ قوة الاحتلال بسخاء، فالمطلوب ألّا تشكّل غزّة مصدراً لـ"إزعاج" الإسرائيليين، بينما يتاح لهؤلاء تهديد المدنيين في القطاع ساعةَ يشاؤون وكيفما يشاؤون، وسيضمنون صمت إدارة ترامب عن هذه الارتكابات، وهو ما حدث بالفعل منذ العاشر من الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول)، تاريخ الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار، إذ قتلت قوات الاحتلال بدم بارد 270 مدنياً حتى الآن، وهدمت نحو 1500 مسكن في خانيونس وغيرها، ولم تنتبه واشنطن لما حدث، ولم تجد في هذه الجرائم الإضافية ما يدعو إلى القلق أو التعليق. وتتحكّم القوة المحتلة بتدفّق المساعدات، إذ سمحت بدخول ما يقل عن مائة شاحنة في اليوم، خلافاً للاتفاق بتمكين 600 شاحنة من الدخول يومياً. بل إن القوة المحتلّة تمنح نفسها الحقّ في منع دخول موادَّ غذائيةٍ أساسيةٍ مثل الطحين والرز والبيض وحليب الأطفال، وتختار بدلاً منها دخول موادَّ مثل "الشيبس" و"النسكافيه" و"البسكويت". وتتحكّم بدخول أعداد الجرافات القادمة من مصر، وبالوقود اللازم لتشغيلها. وذلك وفق معادلة أميركية مفادها أنه يمكن للقوة المحتلة أن تواصل التحكّم والسيطرة، وأن تمارس العنف الدموي ضدّ المدنيين، على أن يكون ذلك بوتيرة أقلّ بكثير من السابق، ومن دون بيانات عسكرية صاخبة.

ورغم الإشارة الواضحة إلى وقف إطلاق النار، إلا أن مشروع القرار لا يمنح أهميةً حاسمةً وملموسةً لوقفٍ تامّ لإطلاق النار، ولا الكفّ عن استهداف المدنيين ووقف تدمير البيوت، معتبراً هذه الأمور تفاصيلَ ثانويةً أو أضراراً جانبيةً، تاركاً ثغرات غير مرئية ينفذ منها جيش الاحتلال لمواصلة اقتراف جرائمه بصورة متقطّعة. ولعلَّ من أكثر الشواهد على السلوك الأميركي غير الإنساني في قطاع غزّة هو ما يجري من تجاهل لنداءات أبناء القطاع لتمكينهم من إخراج آلاف الضحايا من تحت الأنقاض. يتجاهل المبعوثون الأميركيون ذلك، ويكتفون بالحديث عن الحاجة إلى انتشال بضعة جثامين لإسرائيليين، مع إنكار وجود عدد هائل من جثامين الفلسطينيين تحت أنقاض بيوتهم التي دمّرتها القوة الغاشمة.

وبينما تنشغل واشنطن بالتواصل مع دول عدة للمشاركة في القوة الدولية، فإن إدارة ترامب تستبعد التواصل مع الدول العربية المعنية بشأن جوانب الوضع الانتقالي الحالي، فالقوات المحتلة تتشبّث بالسيطرة على نصف مساحة القطاع، وتريد أن تحدّد المناطق التي ستجرى فيها إعادة الإعمار، وتنسّق مع واشنطن لإقامة مجمّعات سكنية في الجنوب بعد التدقيق في هُويَّة كل غزّي من جهاز الشاباك الإسرائيلي، من أجل السماح له بالإقامة في تلك المربّعات السكنية. ومغزى ذلك كلّه، أن إدارة ترامب تمنح حكومة نتنياهو الحقّ في إدامة السيطرة على (والتحكّم بِـ) مفاصل القطاع، مع رفض أن يكون لمصر أو للسلطة الفلسطينية أيّ دورٍ على الأرض في هذه المرحلة، وإلى أن تتم المشاركة في قوة الاستقرار الدولية التي ستشرف على أمن القطاع باعتباره أرضاً منزوعة الهُّويَّة والسيادة، وبحيث تتقاسم القوة الدولية مع الولايات المتحدة ومع قوات الاحتلال مهمة تسيير الحياة وتنظيم شؤون مليوني غزّي، وفق ما يشاء الانتداب الأميركي الذي يراعي في المقام الأول مصالح التوسّع الإسرائيلي.

هذا يرتّب على الضامنين مواكبة ما يجري على الأرض، ومنح الأولوية المطلقة لأمن أبناء القطاع وكرامتهم وتلبية احتياجاتهم الحيوية، وضمان حقّهم في استعادة تنظيم حياتهم، بما يملي الضغط على قوة الاحتلال للتوقّف عن تدخّلاتها، والاستعداد للانسحاب في أقصر الآجال، فهي قوة أجنبية غازية ولا يحقّ لها تقرير مصير القطاع، وهو ما ينبغي أن يتضمّنه القرار بغير لبس بدعم من الجزائر، الممثّل العربي في مجلس الأمن، ومن بقية الدول الصديقة.

أمّا في تعامل الضامنين مع إدارة ترامب، فلا بدّ من التشديد على أن استعادة الأمن في غزّة مرهونة بالانتقال ضمن برمجة واضحة إلى حلّ سياسي شامل، يكون فيه القطاع جزءاً لا يتجزّأ من دولة مستقلّةٍ ذات سيادة، وبضماناتٍ إقليميةٍ ودوليةٍ لإحلال السلام والأمن في الجانبَيْن الفلسطيني والإسرائيلي.

العربي الجديد
واشنطن تشارك تل أبيب احتلال القطاع _ محمود الريماوي