العميد الركن نزار عبد القادر
اعتبر احد الكتاب الاسرائيليين ان نتائج الهجوم الذي شنته حماس على غلاف غزة هي اشبه بالزلزال الذي يضرب بنياناً قديماً، ظهرت في هيكله تشققات عديدة، وكان من تأثير الزلزال المباشرة ان وسَّع هذه التشققات، كما هز اساسات البناء، وبما ينذر بانهياره في المستقبل المنظور.
بدأت فكرة انشاء دولة صهيونية في فلسطين قبل 120 سنة، وجرى الاعلان عن نشائها عام 1948، وقد نجحت في تحقيق مكاسب جغرافية وسياسية على الشعب الفلسطيني وعلى الدول العربية المجاورة، وبما مكّنها من احتلال كامل الجغرافيا الفلسطينية، بما فيها الضفة الغربية وغزة. ولكن لم تنجح اسرائيل بإخضع ارادة الشعب الفلسطيني للاعتراف بها كدولة صهيونية على اي جزء من فلسطين، كما فشلت في إنزال نكبة جديدة بالشعب في الضفة وغزة، وذلك على غرار عملية التهجير الجماعي الذي حصل عام 1948.
يبدو الآن من نتائج الحرب الراهنة في غزة، والتي دخلت في شهرها العاشر بأن الدولة الاسرائيلية قد فشلت في اقامة مجتمع متجانس، يملك وحدة الرؤية للدولة ووظيفتها العامة، حيث ينقسم الشعب الاسرائيلي الى معسكرين: معسكر المؤمنين بالدولة العلمانية والديمقراطية، ويضم هذا المعسكر اجمالاً اليهود القادمين من الدول الاوروبية، وهناك معسكر المتطرفين الذين يريدون اقامة دولة اسرائيل التوراتية، مع كل ما يعني ذلك من احتلال ما تبقى من اراضي الضفة وغزة وتهجير سكانها العرب، واعادة بناء الهيكل الثالث.
من المؤكد ان عملية فشل الدول وسقوطها هي عملية معقدة وطويلة، ومرشحة لان تأخذ عقوداً عديدة، ولكن هذا المبدأ لا يمنع من رؤية وجود تشققات اجتماعية، ومشكلات بنيوية في جسم الدولة، وهي مرشحة للتنامي بسرعة تحت تأثير الخلافات العميقة في رؤية المعسكرين الاسرائيليين لمستقبل الدولة العبرية ودورها داخل فلسطين، وعلى المستويين الاقليمي والدولي. يرى ايلان بابيه كاتب المقال بأننا بدأنا نشهد تطوراً تاريخياً، ينبئ بإمكانية سقوط الدولة الصهيونية، وعندما يدرك معسكر المتطرفين هذا الامر، فإنه سيقوم بمحاولات حثيثة لمنع حصوله، بما في ذلك ارتكاب المزيد من الجرائم بحق الشعب الفلسطيني، بما في ذلك تنفيذ عمليات ابادة وتهجير وهدم منازل والاستيلاء على ما تبقى من اراضي الضفة وغزة.
ربّ قائل بأن هذه الاختلافات في النظرة لدى المعسكرين داخل المجتمع الاسرائيلي هي قديمة، وقد وجدت منذ قيام دولة اسرائيل عام 1948، نعم، هذا صحيح، ولكنها كانت خلافات نظرية، ولكنها قد تطورت واصبحت جزءاً من التحركات الشعبية في الشارع الاسرائيلي، مع ترجيح ان تشهد تصعيداً كبيراً نتيجة السياسات الخاطئة التي تتبعها حكومة نتنياهو اليمنية، وفي ظل ازمة «الرهائن» لدى حماس، والتداعيات الناتجة امنياً واقتصادياً عن الحرب المستمرة في غزة، والتي لا يبدو بأن حكومة نتنياهو هي قادرة على ايجاد وسيلة معقولة وعملية لانهائها ومعالجة اضرارها.
في الواقع سبقت الخلافات العميقة بين المعسكرين داخل المجتمع الاسرائيلي هجوم حماس على غلاف غزة، وخصوصاً اثناء الانتخابات الاسرائيلية عام 2022، حيث ادى تصويت المتدينين وسكان مستعمرات الضفة الى نجاح التيار اليميني وبالتالي تشكيل الحكومة اليمينية الراهنة. لكن بعد هجوم 7 تشرين اول اشتدت الخلافات، بالرغم من شعور المعسكرين بالحاجة لتوحيد الصفوف لمواجهة مخاطر الحرب مع حماس وحزب الله.
وتسببت الخلافات الداخلية بمزيد من الانقسامات، وبدت امكانية التوحد لمواجهة حماس بأنها وهم، وكان البديل المزيد من الخلافات العميقة في الشارع، وكانت نتيجة حدة الخلافات قد ترجمت بحدوث هجرة معاكسة، ادت وفق كل الارقام المتوفرة الى هجرة نصف مليون مواطن من المعسكر الداعم لقيام الدولة العلمانية والديمقراطية.
لن تؤدي في رأينا، الدينامية السياسية داخل حكومة نتنياهو ودعمها غير المحدود للتيار الديني اليميني ولسكان المستعمرات في الضفة او عسكرة التيار الاستيطاني الى اية مصالحة داخل المجتمع الاسرائيلي، كما انها ستلقى المزيد من الرفض والمقاومة من قبل الفلسطينيين، ومن الدول العربية، او من المجتمع الدولي، ويشكل اعتراف عدد من الدول الاوروبية بالدولة الفلسطينية مؤخراً، افضل دليل على ما تحدثه موجة التعصب الجديدة لدى المستوطنين من ردود فعل مضرة بسمعة ومستقبل دولة اسرائيل.
لعلّ من اخطر التداعيات للحرب المستمرة على غزة التدهور الحاصل في الاقتصاد الاسرائيلي، حيث اظهرت الاحصائيات الاسرائيلية في الربع الاخير من العام الفائت تراجع الاداء الاقتصادي العام بنسبة 20 في المائة، ويبدو الآن تراجع اي امل بالخروج من الازمة الاقتصادية، وذلك بالرغم من المساعدات الاميركية التي بلغت 14 مليار دولار، والتي عجزت عن سد الثغرة الحاصلة في المالية العامة. ويعتقد العديد من الخبراء في الشأن الاقتصادي الاسرائيلي بأن الاوضاع الاقتصادية والمالية هي مرشحة لتشهد المزيد من التراجع اذا ما استمر القتال على الجبهة الشمالية مع حزب الله وفي ظل الاحداث المتواصلة التي تشهدها الضفة الغربية.
ويربط بعض الخبراء التدهور الاقتصادي المتسارع بسوء الادارة الحاصل في المالية العامة، وبالتحويلات المالية التي يقدمها وزير المالية الحالي سموتريش للمستوطنين في الضفة.
يضاف الى كل هذه التداعيات المرتبطة بالحرب وبالوضع الامني العام هروب رؤوس الأموال والاستثمارات للطبقة الثرية الى خارج اسرائيل، والتي يمكن ان تنعكس على نسبة عائدات الدولة من الضرائب والرسوم، والتي ستؤثر سلباً على الاداء المالي في الموازنة العامة وبالتالي مضاعفة العجز المالي، والتوجه الى طلب المزيد من المساعدات الاميركية للسنة المالية المقبلة، وذلك قبل احتساب حجم الخسائر الحاصلة بسبب التهجير او التدمير، او تمديد مهلة استدعاء الاحتياط للجيش.
يبدو ايضاً بوضوح ان الحرب على غزة مع كل ما تسببت به من دمار عام وما ارتكب خلالها من مجازر ضد السكان المدنيين والتي تسببت وفق الاحصاءات الراهنة بمقتل ما يزيد عن 38 الف قتيل و88 الف جريح، قد تسببت بعزل اسرائيل دولياً، وبالفعل لهذه الاسباب فقد صوتت 143 دولة في الجمعية العمومية للامم المتحدة لصالح الاعتراف بدولة فلسطين، كما اعترفت بها اسبانيا وايرلندا والنروج، مع توقع انضمام العديد من الدول الاوروبية قريباً للاعتراف بها. يضاف الى هذه العزلة الادانة الصادرة والملاحقة الجرمية لقادة اسرائيل من قبل محكمة العدل الدولية، ومن المحكمة الجنائية الدولية، وصدور مذكرات توقيف دولية بحق عدد من القادة السياسيين والعسكريين، ولا يمكن في هذا السياق تجاهل الاضرار الناتجة عن انقلاب وابتعاد ملايين من الشباب اليهود عن دعم دولة اسرائيل، وخصوصاً بعد الاحتجاجات العامة التي شهدتها الجامعات الاميركية ومعظم المدن في القارة الاوروبية وحول العالم.
في الخلاصة، ان المخرج الوحيد لدولة اسرائيل من الازمة الخطيرة التي بدأت تواجهها، والتي من المفترض ان تسرّع حالة التفكك المجتمعي الحاصل تحت تأثير ما ستتركه الحرب في غزة وعلى الجبهة الشمالية مع حزب الله (في حال توسعها) لن يكون من خلال العودة الى مفاوضات السلام (غير المجدية) والتي بدأت مع اتفاقيتي اوسلو عام 1993، تبرز الحاجة لاعتماد مسار جديد لاية عملية بحث عن مخارج من الازمة، يبدأ باقتناع القيادات الاسرائيلية بضرورة الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، وباتخاذ خطوات سريعة لوقف الاستيطان في الضفة وانهاء احتلالها للاراضي الفلسطينية المحتلة منذ حزيران 1976، واعطاء الفلسطينيين الكلمة الفصل والحق بتحديد مصيرهم وبناء مستقبلهم من خلال اقامة دولتهم المستقلة والقابلة للحياة.
من هنا لا بد ان تدرك الحكومة الراهنة في اسرائيل ومعها المجتمع الدولي بأن وقف اطلاق النار يجب ان لا يشكل غاية في حد ذاته، بل هو خطوة اولى على طريق انهاء الاحتلال الاسرائيلي، وبداية المسار لاقامة دولة فلسطينية مستقلة.
ملاحظة: مفهوم الدولة العلمانية والديمقراطية لا يشمل الفلسطينيين بل اليهود فقط.
صحيفة اللواء