هديل رشاد
تحل الذكرى السنوية الـ58 لنكسة حزيران/يونيو 1967 يوم غد، الحرب التي لم تكن مجرد هزيمة عسكرية، بل نقطة تحوّل جذري في مسار القضية الفلسطينية، في ستة أيام فقط، لم يتغيّر ميزان القوى في الإقليم فحسب، بل أُعيد تعريف فلسطين من مشروع تحرر وطني إلى نزاع حدود مؤطر، ومعلّق بقرارات دولية فضفاضة، لخدمة المشروع الصهيوني البائس الذي أقرَّ عام 1917 تحت اسم وعد بلفور.
وقبل استعراض الخسائر التي لا يزال يتجرعها الشعب الفلسطيني أينما كان، من المهم الإشارة إلى الأسباب وراء اندلاع حرب 1967، والذي جاء على خلفية تصعيد سياسي وعسكري مُعقَّد، كانت أبرز أسبابه المباشرة التوتر المتراكم بين إسرائيل والدول العربية منذ العدوان الثلاثي عام 1956، خاصة بعد انسحاب إسرائيل من سيناء تحت الضغط الدولي، إغلاق مصر لمضيق تيران أمام الملاحة الإسرائيلية في مايو 1967، ما اعتبرته إسرائيل إعلان حرب، إذ كان المضيق شرياناً بحرياً حيوياً لها، انسحاب قوات الطوارئ الدولية من سيناء، التي كانت تفصل بين الجيشين المصري والإسرائيلي، ما أُعطي ذريعة لإسرائيل باعتبار أن الحرب باتت وشيكة، التعبئة العسكرية العربية وتصاعد الخطاب الحربي في الإعلامين المصري والسوري، رافقه حشد قوات على الحدود، ما زاد من احتمالية اندلاع مواجهة مفتوحة. في غضون ستة أيام، احتلت إسرائيل كلَّ فلسطين، واحتلت مناطق جديدة من الدول العربية، حيث أصبحت مساحة إسرائيل ثلاثة أضعاف ما كانت عليه، إذ سقطت الضفة الغربية التي كانت تحت سيطرة القوات الأردنية، القدس الشرقية، قطاع غزة الذي كان تحت سيطرة القوات المصرية، شبه جزيرة سيناء، ومرتفعات الجولان السورية، مزارع شبعا اللبنانية، فضلا عن جزيرتي صنافير وتيران، فكان الانهيار شاملاً، ولم يكن مجرد احتلال أرض، بل تأسيس فعلي لمشروع توسعي مدعوم أمريكياً وغربياً. للمرة الأولى منذ النكبة في يونيو 1967 خضع المسجد الأقصى لسيطرة الاحتلال الإسرائيلي الكاملة، في اليوم الثالث للحرب، اقتحمت القوات الإسرائيلية البلدة القديمة ورفعت علمها على حائط البراق، وبدأت سريعا بفرض واقع جديد في المدينة، ورغم ذلك، وبفعل تدخلات سياسية وضغوط عربية، خاصة من الأردن، لم تُمسّ الإدارة الدينية للمقدسات، فبقيت الوصاية على المسجد الأقصى والمقدسات الإسلامية بيد وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية الأردنية، التي استمرت في تعيين الحراس، وتنظيم شؤون الصلاة، والإشراف على الصيانة، لكن هذه السيادة كانت دينية وإدارية فقط، في مقابل سيطرة أمنية كاملة بيد الاحتلال، الذي بدأ منذ اللحظة الأولى في فرض قيود على دخول الفلسطينيين، وتكريس سردية توراتية سياسية تتغذى على التهويد.
فور توقف المعارك، أصدر مجلس الأمن القرار 242 في نوفمبر 1967، بصيغة غامضة تنص على انسحاب إسرائيل من أراضٍ احتلت وهو ما استغلته إسرائيل لصالحها، الأخطر أن القرار لم يعترف بالفلسطينيين كأصحاب حق، بل كقضية لاجئين فقط، وهو تمهيد مبكر للاعتراف بشرعية الكيان المحتل دون أي التزام بإنهاء الاحتلال.
فبعد قرار مجلس الأمن 242 أصبح في كل مناسبة أممية، وكل بيان سياسي، تُستعاد جملة (قيام دولة فلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية)، جملة تبدو عادلة، لكنها في حقيقتها اعتراف عملي بإسرائيل، وسقف منخفض لحق أعلى، ونتاج لحسابات دولية بدأت عقب النكسة ولم تنتهِ باتفاق أوسلو 1993. طوال السبعينيات وأوائل الثمانينيات، ظلت منظمة التحرير متمسكة بالرؤية الكاملة لفلسطين التاريخية، لكن المتغيرات الدولية، والضغوط الأمريكية والعربية، حشرتها في الزاوية، ففي 15 نوفمبر 1988، أعلن المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر قيام دولة فلسطينية على حدود 1967، مع الاعتراف بالقرار 242، بهذا الإعلان اعترفت المنظمة عملياً بإسرائيل، ووافقت على حل الدولتين، مقابل اعتراف دولي بها كممثل شرعي وحيد للفلسطينيين.
ثم جاء أوسلو 1993 ليعيد تثبيت الحل المرحلي، القائم على دولة دون سيادة، وعلى انسحاب جزئي ومؤجل، وعلى تأجيل كل ما له قيمة: القدس، اللاجئون، الحدود، فحصلت إسرائيل على اعتراف كامل وشرعية جديدة، بينما حصل الفلسطينيون على سلطة إدارية تحت الاحتلال، بلا دولة ولا حماية.
اليوم، بعد أكثر من خمسة عقود على النكسة، وثلاثة عقود على أوسلو، لم تقم الدولة!، ولم يتوقف الاستيطان!، ولم تُحل قضية اللاجئين! ومع ذلك، لا يزال الخطاب الدولي يردد «حل الدولتين على حدود 1967»، كأنها تعويذة لا تفقد صلاحيتها.
ختاماً...
إنَّ الاعترافَ بحدود 1967 لم يجلب سلاماً، بل شرعن الاحتلال، وقزّم الحق الفلسطيني، وجملة «حل الدولتين على حدود 1967» كرّست لسلب الحق الفلسطيني باستعادة أراضيه كاملة، بل أصبحت تجميلاً لقلة حيلتنا، وتواطؤاً مغلفاً بالقانون الدولي، فالحديث عن دولة فلسطينية دون اقتلاع الاحتلال، كالطبيب الذي يداوي العَرض ويتجاهل جذور المرض.
صحيفة الشرق القطرية