ماذا بقي من كرامة لأمة عربية مزعومة؟ _ وائل قنديل


وائل قنديل

"نحن نعلن الحرب... وكل من يخترق المنطقة المحظورة سيُستهدَف". هذه رسالة وزير الأمن الإسرائيلي يسرائيل كاتس (أمس الأربعاء)، إلى من يهمّه الأمر. ومن يهمّه الأمر هنا بالتحديد هو القاهرة، إذ يصدر الوزير الصهيوني أمراً بتحويل المنطقة المحاذية للحدود المصرية "منطقةً عسكريةً مغلقةً" بذريعة مواجهة عمليات تهريب الأسلحة من الأراضي المصرية، لافتاً إلى أنّ "تعليمات فتح النار سيتم تعديلها وفقاً لذلك". لم تصدُر أيُّ ردّة فعل من القاهرة، حتى لحظة كتابة هذه السطور، على إعلان الحرب الإسرائيلي، الصادر بعد أيام قلائل من تصريحات عبد الفتاح السيسي في احتفالات ذكرى حرب أكتوبر (1973)، اعتبر فيها "السلام بين مصر وإسرائيل نموذجاً تاريخياً يُحتذى به".
ترافق كلام كاتس عن الحرب عند الحدود المصرية مع إعلان مماثل عن استئناف الحرب بصورة أوسع على لبنان، وإصدار أوامر لسكّان الجنوب اللبناني بالإخلاء، مع تحليق الطائرات الإسرائيلية المُسيَّرة على ارتفاعٍ منخفضٍ فوق العاصمة بيروت، تزامناً مع انعقاد جلسة لرئاسات الدولة الثلاث في قصر بعبدا للنظر في مسألة نزع سلاح المقاومة اللبنانية.
الآن، تتحرّك تل أبيب بكل حرية في أيّ مكان تختاره في الوطن العربي كلّه، بدءاً من سورية، التي بات استهدافها في جميع مدنها، بما في ذلك القصر الرئاسي بدمشق خبراً روتينياً لدي المتابع، ولدى الدولة السورية نفسها، وكذلك الأمر في اليمن، البلد العربي الوحيد الذي يردّ العدوان بكرامة، وكما فعل الصهيوني في الدوحة، وكما يزمع تنفيذه في العراق الذي بدأت حكومته في التحضير للانصياع للرغبة الأميركية الصهيونية بنزع سلاح الفصائل العراقية المقاومة، التي كانت جزءاً من مبدأ "وحدة الساحات" في مواجهة العدوان الإسرائيلي على غزّة ولبنان.
في الحالة المصرية، من المهم التذكير بأن محور صلاح الدين (فيلادلفي بحسب التسمية الإسرائيلية) لا يزال محتلاً من الاحتلال الصهيوني، من دون أن نسمع ضغوطاً ومطالبات مصرية بإنهاء السيطرة على مساحة هي من صميم السيادة المصرية وعلى حدودها، فضلاً عن أن معبر رفح (المصري الفلسطيني) لا يزال في قبضة إسرائيل.
في العقيدة الإسرائيلية، من أقصى اليمين الحاكم إلى أقصى يسار المعارضة، الشرق الأوسط مساحة مفتوحة، لإسرائيل الحقّ في التحرّك والتمدّد فيها، هذا ما يقوله وزير المالية المسكون بأحلام تهجير الشعب الفلسطيني وتوسعة حدوده في عمق سورية والعراق والأردن ومصر، وحتى السعودية، ويقوله نتنياهو بعبارات أخفّ، ويقوله المعارض الأول لهما، رئيس الحكومة السابق يائير لبيد ، معلناً أن "إسرائيل هي الدولة الأقوى في الشرق الأوسط لأننا الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، الشرق الأوسط بيتنا ونحن هنا لنبقى، ولن نذهب إلى أيّ مكان آخر".
وفي العقيدة الأميركية (أكرّر) ليس من حقّ أحد امتلاك السلاح في المنطقة إلا إسرائيل، وليس لأحد الكلام بلغة السلاح إلا الاحتلال، ورويداً رويداً نجحت واشنطن في تدريب اللسان الرسمي العربي على مقولة نزع السلاح بوصفها مرادفاً للسلام والاستقرار في المنطقة. وفي موازاة ذلك يستبسل الإعلام في تعويد الأذن العربية على "نزع السلاح" مفردةً من مفردات قاموس السلام، ويصير المشهد أكثر مأساويةً، حين تُسوَّق قمم نزع السلاح وتجريم أعمال المقاومة باعتبارها انتصاراتٍ أحيت القضية، وأنقذت الشعب الفلسطيني في غزّة من الهلاك، تماماً كما أنّ لبنان موعود بعملية إنقاذ مماثلة تشترط أن يكفر بمقاومته، ويقتلع سلاحها كما يقتلع الاحتلال أشجار الزيتون.
عمليات نسف متصاعدة في غزّة والضفة وجنوب لبنان، وإعلان حرب على الحدود مع مصر، وانفراد بسلطة تحديد حجم وقوام القوة الدولية المزمع سيطرتها على قطاع غزّة تحت الإشراف الأميركي، وخطوط صفراء وحمراء يرسمها نتنياهو بنفسه في الخريطة العربية، فيما تستمرّ في الجهة الأخرى عمليات نسف الذاكرة الوطنية وتدمير المفاهيم في الإعلام العربي، ليصبح المقاوم العربي هو الخطر، بل هو العدو الدخيل على المنطقة والتهديد الأول للأمن والسلام والاستقرار، بينما الاحتلال هو الشريك صاحب الوجود الشرعي الأصيل في منطقة لم تكن قبل ثمانين عاماً تعرف شيئاً اسمه "إسرائيل"، وعندما عرفته كان تطلق عليه "إسرائيل المزعومة"، فماذا بقي من كرامة لهذه الأمة العربية المزعومة؟

العربي الجديد
ماذا بقي من كرامة لأمة عربية مزعومة؟ _ وائل قنديل