صلاح سلام
يكثر الحديث هذه الأيام عن مفاوضات مع الجانب الإسرائيلي في إطار «لجنة الميكانيزم»، يريدها لبنان غير مباشرة، فيما الوسيط الأميركي والطرف الإسرائيلي يريدانها مباشرة. وفي الحالتين لم تتضح بعد معالم خطة وطنية شاملة لإدارة هذا المسار الدقيق والحساس. ومع أن المفاوضات تُعدُّ وسيلة مشروعة لاستعادة الحقوق وحماية السيادة، إلا أن خوضها بلا رؤية متكاملة، أو منطلق وطني موحد قد يُفقدها مضمونها، ويحوّلها إلى مجرّد عملية شكلية تخدم مصالح ظرفية، أو حسابات سياسية داخلية.
إنّ لبنان، الذي لا يزال جزءٌ من أراضيه محتلاً بدءًا من التلال الحدودية الخمس، وصولا إلى مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والنقاط المتنازع عليها في بلدة الغجر، لا يمكنه مقاربة هذا الملف إلا من موقع الدولة السيّدة التي تفاوض من موقع الحقّ لا من موقع الضعف، ومن موقع التمسّك بالقرارات الدولية لا التنازل عنها. وهذا ما يفرض إعداد إستراتيجية تفاوض وطنية تستند إلى عناصر القوة القانونية والسياسية والدبلوماسية، وتراعي في الوقت نفسه التكتيكات الضرورية في التعامل مع عدو لطالما اعتمد الخداع والمماطلة، وسعى إلى استغلال الانقسامات الداخلية في الدول التي يواجهها.
أول ما تحتاجه هذه الإستراتيجية هو توحيد الموقف اللبناني الرسمي والشعبي حول أهداف المفاوضات وحدودها. فلا يمكن لوفد تفاوضي أن ينجح ما لم يكن مدعوماً بإجماع وطني واضح، يحدد الثوابت غير القابلة للمساومة، وفي طليعتها انسحاب إسرائيل من كامل الأراضي اللبنانية المحتلة وتطبيق القرار 1701 نصاً وروحاً. فالانقسامات الداخلية والمزايدات الشعبوية لا تخدم إلا العدو، وتضعف قدرة لبنان على التفاوض من موقع القوة والثقة.
وقبل الذهاب إلى المفاوضات لا بد من حسم ملف سلاح حزب الله، وتنفيذ قرار حصرية السلاح بيد الدولة والأجهزة الشرعية، لأنه من المتوقع أن يكون البند الأول في الطروحات الأميركية والإسرائيلية، في حين أن وقف الإعتداءات اليومية، والإنسحابات من المناطق المحتلة سيكونان حتماً في أولويات الأجندة اللبنانية.
من المسلّم به أن إنهاء تسلّم سلاح الحزب لا يمكن أن يتم بكبسة زر، أو بين ليلة وضحاها، أو حتى خلال فترة وجيزة، كما كان مفترضاً. ولكن بإمكان لبنان أن يواجه عقدة السلاح الحزبي عند الإسرائيلي بوضع برنامج زمني ومتزامن بين الإنسحابات وتنفيذ حصرية السلاح، تجاوزاً لواقع فقدان الثقة بين الجانبين، ولإستمرار رفض الوسيط الأميركي،حتى الآن، تقديم ضمانات بتنفيذ ما يتم الإتفاق عليه في المفاوضات، خاصة بالنسبة لمنع عودة نتنياهو للجوء للتصعيد العسكري عبر الغارات اليومية، وذلك على غرار الضمانات التي قدمها الرئيس الأميركي ترامب للجانبين الإسرائيلي والفلسطيني: للأول بإطلاق الرهائن الأحياء دفعة واحدة، وللثاني بعدم عودة الحرب الإسرائيلية على غزة.
ولا داعي للتكرار بأن سلاح الحزب، بقدر ما هو شأن لبناني، ما زال يُعتبر ملفاً إقليمياً، نظراً لإرتباطه بالصراع مع العدو الإسرائيلي من جهة، وبمحور الممانعة الإيراني من جهة ثانية. ولذلك ليس مستبعداً أن يكون البند الأول على جدول المفاوضات المنتظرة.
لقد أثبتت التجارب أن المفاوضات، متى كانت بلا إستراتيجية، تتحول إلى مجرد تبادل أوراق ومواقف عقيمة، فيما يبقى الاحتلال قائماً. أما عندما تُبنى المفاوضات على رؤية وطنية جامعة، وتدار بكفاءة سياسية ودبلوماسية، فإنها تصبح أداة فعّالة في استعادة الحقوق وترسيخ السيادة. وهذا ما يجب أن يسعى إليه لبنان اليوم: أن يحوّل المفاوضات من رد فعل ظرفي إلى مسار وطني منظم يخدم المصلحة العليا للدولة، ويعبّر عن إرادة اللبنانيين جميعاً في استعادة أرضهم وفرض احترام سيادتهم.
إنّ المطلوب ليس رفض المفاوضات ولا الانخراط فيها كيفما اتفق، بل التعامل معها كاستحقاق وطني، يستدعي أعلى درجات التنسيق بين المؤسسات الدستورية، ويقتضي وجود مرجعية سياسية موحدة، مثل إنشاء «خلية إدارة أزمة» على مستوى الرؤساء الثلاثة أولاً، وعلى مستوى وزراء وخبراء يمثلون الرؤساء للإجتماع كلما دعت الحاجة، على أن تتولى «خلية الأزمة» الإشراف على إدارة هذا الملف ضمن إطار واضح وشفاف. فالمسألة ليست تقنية بقدر ما هي سياسية وسيادية بامتياز، تمس جوهر الكيان اللبناني وموقعه في معادلة النظام الإقليمي العتيد.
وإذا كان العدو يفاوض انطلاقاً من مصلحته الأمنية والاستراتيجية، فليس أقل من أن يفاوض لبنان من موقع الدولة الواعية لحقوقها والمتمسكة بقراراتها، دون انقسام داخلي، أو تردد رسمي، أو خضوع لأي أجندة خارجية. فالمفاوضات ليست غاية بحد ذاتها، بل وسيلة لاستعادة الأرض وحماية الكرامة الوطنية، وهذا ما لا يتحقق إلا بوحدة الموقف ووضوح الهدف وصلابة الإرادة.
صحيفة اللواء