مأساة آلاء النجار.. وصمة على جبين العالم _ هديل رشاد


هديل رشاد

في صباحٍ بدا عادياً وسط فوضى الحرب، وصلت الطبيبة آلاء النجار – طبيبة أطفال – إلى مستشفى التحرير بمجمع ناصر الطبي بخان يونس حيث تعمل. إلا أنها، في ذلك اليوم تحديداً، شعرت برغبة عارمة لقضاء بعض الوقت مع أطفالها العشرة، فأعدّت لهم بعض اللقيمات مما تيسّر؛ فالحرب وسياسة التجويع التي تمارسها حكومة الكيان المحتل لم تترك شيئًا دون أن تنهشه.

وأثناء استعدادها للخروج، وقبل أن يوصلها زوجها إلى عملها كالمعتاد، أقبلت بروحها قبل جسدها على أطفالها، تقبّلهم واحدًا تلو الآخر، وكأن قلبها كان يهمس لها أن هذا اللقاء الأخير. ثم غادرت المنزل برفقة زوجها، ظنّت حينها أن أصعب ما ستواجهه في هذا اليوم هو محاولتها مواساة الأمهات المفجوعات بأطفالهن، في ظل انعدام أبسط الاحتياجات الطبية بمستشفيات قطاع غزة، جرّاء حرب مستعرة منذ 19 شهرًا.

لكن بينما كانت الطبيبة آلاء تبذل أقصى جهدها لإنقاذ حياة الأطفال، كانت صواريخ الاحتلال تمزّق أجساد تسعة من أطفالها العشرة!، دفعةً واحدة، بلا ذنب. صاروخ واحد كان كفيلاً بمحو حيٍّ كامل، وجعله أثرًا بعد عين.

حين وصلها الخبر، لم تصرخ، لم تبكِ، قيل إنها صمتت للحظات. صمت طويل، عميق، حارق… يشبه موتًا بطيئًا. طبيبة أفنت سنواتها في تضميد الجراح، عادت لتجد بيتها ركاماً، وعينيها تستجديان رجال الإسعاف والدفاع المدني: هل بقي أحد على قيد الحياة لتودّعه الوداع الأخير؟ لكن حتى هذا الحق بات ترفًا للفلسطيني.

وجدت نفسها جريحة بلا شفاء، أمًّا بلا أطفال، إنسانة أظنها كفرت بالأخوّة العربية في عالم بلا ضمير، ومع ذلك، امتلأت بالصبر، مؤمنة بأن ما عند الله أبقى.

أطفال الطبيبة آلاء النجار لم يكونوا أرقاماً، بل كانوا أسماءً، وضحكاتٍ تملأ زوايا البيت، وأحلامًا تعانق السماء. ورغم هذا الفقد، لا يزال العالم يراقب، يدين ببيانات خجولة، يتفرّج على المجازر، يتابعها من بعيد، يقلب محطات التلفاز بجهاز تحكم عن بعد، متمتمًا: "وماذا عسانا أن نفعل؟”.

ربما لا تملكون فعل شيء، لكن أنتم، من يجمّلون وجه الاحتلال ويصفقون لاتفاقيات السلام، ماذا ستقولون للطبيبة المكلومة آلاء النجار؟ بأي وجه ستبرّرون موت تسعة أطفال؟ لم يحملوا سلاحًا، بل استشهدوا على عتبات الطفولة المسروقة في غزة.

مأساة آلاء النجار ليست مشهداً إنسانياً عابراً، بل صفعة في وجه كل من تواطأ بالصمت أو البيان الموارب، وقد أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية في قطاع غزة أن عدد الأطفال الذين استشهدوا جراء العدوان الإسرائيلي المستمر على القطاع منذ 7 أكتوبر 2023 بلغ 16503 أطفال، أن من بين الشهداء 916 رضيعاً تقل أعمارهم عن عام واحد، فيما بلغ عدد الأطفال الشهداء الذين تتراوح أعمارهم بين (1–5 أعوام) 4,365 شهيداً، وبين (6–12 عاماً) 6,101 شهيد، أما عدد الشهداء من الفئة العمرية (13–17 عاماً) فقد وصل إلى 5,124 شهيداً، وهذه الأرقام تعكس حجم الكارثة الإنسانية وعمق الجريمة المرتكبة بحق جيلٍ كامل، كان من المفترض أن يحظى بالحماية والرعاية والتعليم، لا أن يتحول إلى أهداف لصواريخ الطائرات وقذائف الدبابات، وهذا الرقم يفوق عدد الأطفال الذين قُتلوا في جميع مناطق النزاع حول العالم خلال عام كامل.

الاحتلال لا يكتفي بالقصف، بل يستخدم القنص والتجويع كأسلحة حرب، تقارير حقوقية تؤكد أن قنّاصة إسرائيليين استهدفوا أطفالاً برصاص في الرأس أثناء بحثهم عن الطعام والماء، هناك من مات جوعاً، وآخرون استشهدوا حرقاً، وغيرهم قنصا، في مشاهد لا يحتملها من بقي له ضمير حيّ.

الطبيبة آلاء النجار ليست حالة فردية، بل رمزٌ لأمهات كثيرات فقدن أطفالهن في مناطق النزاع، وخاصة في فلسطين، حيث يتّبع الاحتلال سياسة ممنهجة تهدف إلى القضاء على الجيل الجديد، لضمان ألا تقوم للشعب الفلسطيني قائمة. وفي مواجهة هذه الوحشية، يبقى الصمت العربي والإسلامي مخزيًا، في كل بيت فلسطيني قصة، وفي قلب كل أمّ رواية لم تُكتب بعد. آلاء النجار ليست استثناء، بل صدى متكرّر لأصوات الأمهات اللواتي وجدن أنفسهن فجأة في بيوت خالية من الضحك، من الحياة، من الروح. قصتها تكرّرت مئات، بل آلاف المرات، في حرب لا تميّز بين طفل وشيخ، بين مدني ومقاوم.

ختاماً...

الاحتلال الإسرائيلي لا يخشى ردود الفعل، لأنه مدرك أن ردّ الفعل العربي والإسلامي الرسمي لن يتجاوز بياناً إنشائيا، أو تصريحا باهتاً، فالكيان المحتل يراهن على ذاكرة العالم القصيرة، في أنَّ الفلسطيني سيعتاد الألم، ويُربّى على الفقد، حتى يصبح موت أطفاله تفصيلًا عابرا في نشرات الأخبار.

لكن ما لا يدركه الكيان المحتل هو أن لكل أمّ قلبا لا ينسى، وجرحا لا يندمل، وأن من بقي بعد المجازر لن يصمت، ولن يسامح، ولن ينسى، وأن من تربى وسط الركام، لن يقبل حياة بلا كرامة.

صحيفة الشرق القطرية
مأساة آلاء النجار.. وصمة على جبين العالم _ هديل رشاد