هشام بو ناصيف
كرّس ميشال عون منطق حلف الأقليّات كنهج منذ اتفاق مار مخايل الشهير عام 2006. يقوم هذا المنطق على تلاقٍ مفترض بالمصلحة بين المسيحيّين اللبنانيّين والشيعة كأقليّتين تجمعهما مصلحة مشتركة بمواجهة الغالبيّة السنيّة. وإن كان عهد ميشال عون هو الأكثر التصاقًا بالنظريّة التي عبّدت طريقه للسلطة، فالواضح أن منطق حلف الأقليّات لم ينته بنهاية عهده. يعود الرسوخ النسبي للفكرة لأسباب عديدة، منها أن صدمة تحالف السنة اللبنانيّين مع القوى الفلسطينيّة مطلع الحرب اللبنانيّة خلّفت بين مسيحيّي لبنان رواسب نفسيّة يمكن لأيّ سياسي مسيحي راغب بالتحالف مع الشيعة لأسباب سلطويّة استخدامها. ومع ذلك، يبقى منطق حلف الأقليّات من أكثر الأفكار غباء، وأشدّها ضررًا، بتاريخ لبنان، للأسباب التالية:
أوّلا، ينبغي لواحدنا أن يكون مصابًا بالعمى السياسي كي لا يرى كميّة الحقد التي تصدر كلّ يوم من البيئة الشيعيّة تجاه مسيحيّي لبنان. أكتب هذه الكلمات بينما تتناقل مواقع التواصل "فيديو" لشابَّين شيعيّين تعمّدا تصوير رديّة دينيّة شيعيّة تحت أقدام تمثال السيّدة العذراء في حريصا. زيارتهما للمقام تشبه زيارة المتطرّفين اليهود للمسجد الأقصى، أو زيارة قوميّين يونانيّين لآيا صوفيا والتقاط الصور فيها مع أعلام يونانيّة، بمعنى أن الخلفيّة التي تحرّك هذا النوع من التصرّف حقد إثني. هناك من سيحاجج طبعًا ضدّ تحميل تصرّف الشابين أكثر ممّا يحتمل. ولكن هذه الحادثة واحدة من عشرات الحوادث أو التعليقات المشابهة اليوميّة التي لا تخطئها عين متابعة لأحداث لبنان. فكّر مثلًا بما طرحه أحد مشاهدي برنامج مارسيل غانم في استوديو "صار الوقت" قبل أيّام عن ضرورة تغيير اسم مدينة كميل شمعون الرياضيّة إلى مدينة حسن نصراللّه. فكّر بتعمّد عشرات المعلّقين الشيعة على السوشال ميديا التركيز على الصليب الذي تعلّقه مدمنة تزور مخيّمًا فلسطينيًّا للحصول على المخدّرات للإضاءة الوضيعة على خلفيّتها الطائفيّة. فكّر أيضًا بالكراهية الشيعيّة التي وجّهت إلى إيليو أبو حنّا، ضحيّة تفلّت السلاح الفلسطيني في لبنان، والذي حوّله معلّقون شيعة مدمنًا على المخدّرات بعد موته، دع عنك تأكيد تقرير الطبّ الشرعي للفتى القتيل أن لا أثر لتعاطيها في جثته. فكّر أيضًا بشعار "لكلّ خائن حبيب" الذي يرفعه معلّقون شيعة عند كلّ ذكرى سنويّة لاستشهاد الشيخ بشير الجميّل. فكّر كذلك باستسهال المعلّقين الشيعة وصم البيئة المسيحيّة بالعمالة لإسرائيل عند كلّ محطّة خلافيّة، أو التهكّم المشين والمتكرّر على جروح الإعلاميّة ميّ الشدياق. فكّر خصوصًا بالشكوى الشيعيّة المتكرّرة من قانون الانتخابات الذي "لا يساوي بين المواطنين" بمعنى أنه يعطي المسيحيّين اللبنانيّين أكثر من حجمهم. هذه الشكوى بالتحديد لن تراها على السوشال ميديا السنيّة بلبنان، مع أن السنة أكبر طائفة فيه، ولكنها حاضرة بإلحاح في الخطاب الشيعي. كلّ ما سبق مجرّد أمثلة من لائحة تطول جدًّا، وتطرح على مسيحيّي الشيعة بلبنان سؤالًا بسيطًا: على أيّ أساس تقودون جماعتكم للتحالف مع عتاة كارهيها؟
ثانيًا، لم يحجّم أيّ طرف في المنطقة الدور السياسي للمسيحيّين اللبنانيّين بقدر ما فعل نظام حافظ وبشّار الأسد، والقوى الشيعيّة كانت عماده بلبنان. بين المسيحيّين اللبنانيّين وآل الأسد حساب دم على خلفيّة شهادة الآلاف من الشباب المسيحي اللبناني، في المواجهات العسكريّة مع الاحتلال السوري زمن الحرب الأهليّة، فضلًا عن اغتيال رمزي عيراني، وبيار الجميّل، وجبران التويني، وغيرهم بعدها. أمّا وأن آل الأسد كانوا درّة تاج المحور الشيعي الإقليمي قبل اهتزازه، فالسؤال السابق يعيد تكرار نفسه: حلف أقليّات على أيّ أساس يا مسيحيّي الشيعة؟
ثالثًا، الشيعة ليسوا أقليّة في منطقتنا، وإن كانوا كذلك في عالم الإسلام ككّل. عشرات ملايين الشيعة في إيران، والعراق، ودول الخليج، يرفدون الحضور الشيعي اللبناني بخلفيّة إقليميّة يفتقدها المسيحيّون اللبنانيّون. تاليًا، أكثر ما عند الشيعيّة السياسيّة لتقدّمه لهم هو التحاقهم بها من موقع ذيلي، أي من الموقع الذي ترتضيه جماعة جبران باسيل، وبقايا الحزب القومي، والمسيحيّون الشيوعيّون، وما شاكل من النصارى "الوطنيّين".
رابعًا، ليس صدفة أن عشرات آلاف المسيحيّين اللبنانيّين يعيشون ويزدهرون في السعوديّة، والإمارات، والكويت، ولكن أحدًا منهم لا يعيش في إيران. يقدّم المحور العربي السني ازدهارًا اقتصاديًّا، واعتدالًا سياسيًّا، وانفتاحًا على الغرب، وكلّ ذلك مرغوب من مسيحيّي لبنان. إيران نقيض كلّ ما سبق، وهذا ليس تفصيلًا.
خامسًا، ألم تكن الإمارة اللبنانيّة قائمة على أساس الثنائيّة المارونيّة – الدرزيّة؟ الموارنة والدروز أقليّات؛ ولكن ثنائيّتهما المفترضة انتهت بمجازر القرن التاسع عشر. وألم يقم الميثاق الوطني في الجمهوريّة الأولى على الثنائيّة المارونيّة – السنيّة؟ كيف منع ذلك الحرب الأهليّة؟ بالحقيقة، لا توجد تجربة تحالف ثنائي واحدة ناجحة بتاريخ لبنان، والثنائيّة المسيحيّة – الشيعيّة المفترضة ليست استثناء. ما يمكن أن ينجح هو نظام فدرالي موسّع ينقل المسائل السياديّة المتعلّقة بالسياستين الخارجيّة والدفاعيّة من المستوى المركزي إلى المستوى الكانتوني، ويسمح تاليًا لكلّ شعب من شعوب لبنان بالعيش كما يريد. عتاة الأصوات الرافضة لهذا المشروع تأتي من البيئة الشيعيّة لسبب معروف: نبيه برّي يسيطر على الحكم المركزي، ولا يرغب بتفكيكه. وهذا سبب إضافي يجعل من فكرة التحالف مع الشيعة هباء منثورًا: المشروع الفدرالي مرفوض تمامًا من هؤلاء.
صحيفة نداء الوطن