صلاح سلام
يقف لبنان مجدداً عند مفترق مصيري، على إيقاع الجبهة الجنوبية المشتعلة تحت نيران التصعيد الإسرائيلي الذي بات يهدد بحرب شاملة قد تعصف بما تبقَّى من استقرار هشّ. ورغم أن الحكومة اللبنانية أبدت استعدادها للمشاركة في المفاوضات غير المباشرة عبر لجنة «الميكانيزم» الدولية، لتجنب الانزلاق إلى حرب واسعة، مازال العدو الإسرائيلي يتجاهل الموقف اللبناني، ويمعن في إعتداءاته اليومية في الجنوب والبقاع.
لكن ما يثير القلق أكثر من التصعيد الإسرائيلي هو أن هذا الانقسام الداخلي حول المفاوضات، لأنه ليس تفصيلاً سياسياً، بل هو في جوهره انقسام حول هوية القرار الوطني نفسه: هل يبقى قرار الحرب والسلم بيد الدولة وحدها كما يؤكد رئيس الحكومة، أم أن موازين القوى الداخلية الراهنة مازالت تفرض واقعاً موازياً يمنح الحزب حق الفيتو أو المبادرة؟ هذا السؤال لم يعد نظرياً، بل يرتبط مباشرة بمصير لبنان وموقعه في خريطة الصراع الإقليمي.
ما ورد في كتاب حزب الله إلى الرؤساء الثلاثة يجب إعتباره «مجرد وجهة نظر» لفريق سياسي متواجد في السلطة، سواءٌ على المستوى الوزاري في الحكومة، أم بالنسبة لكتلته البرلمانية في مجلس النواب، دون أن يعني ذلك منحه حق الفيتو في إسقاط أي قرار، أو تجميد أي خطوة، تحظى بتأييد أكثرية اللبنانيين ، سواءٌ على مستوى الحكومة، أم على صعيد الرأي العام. وجاء كلام الرئيس نواف سلام حاسماً بأن قرار حصرية السلاح قد إتخذ في الحكومة وإنتهى الأمر، ولا عودة إلى الوراء.
الواقع إن تجنيب لبنان حرباً جديدة لا يتحقق برفع الشعارات أو توزيع الاتهامات، بل بتفاهم داخلي صلب يعيد تعريف العلاقة بين الدولة والدستور، بحيث لا تصبح القوة العسكرية الحزبية بديلاً عن الدولة، ولا تتحول الدولة إلى غطاء للعجز أو الانقسام. فالقوة الحقيقية لا تُقاس بعدد الصواريخ ولا بحجم الخطابات، بل بقدرة الدولة على توحيد قرارها الوطني، واستثمار أوراقها السياسية والدبلوماسية بحكمة.
ولبنان الخارج من حرب مُدمِّرة لا يستطيع أن يوقف وحده العربدة الإسرائيلية العدوانية بالبلاغة الكلامية والبيانات النارية، بل لا بد له من الإستعانة بالأشقاء والأصدقاء لتنشيط قنوات التواصل الديبلوماسي مع كل من واشنطن وتل أبيب، كُلٌّ حسب ظروفه وحجم علاقاته، للضغط على الذهاب إلى مفاوضات «الميكانيزم»، وكشف حقيقة النوايا الإسرائيلية العدوانية تجاه لبنان.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أهمية التعاون والتنسيق مع كُل من الشقيقتين السعودية ومصر للوصول لنزع الألغام من أمام المسار التفاوضي على خطين متوازيين. فالمملكة السعودية قادرة على التعاطي مع إيران، بصفة كونها المعنية مباشرة بوضع حزب الله وسلاحه، وذلك في إطار الإستراتيجية التي يتبعها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لتصفير الأزمات والمشاكل في الإقليم، والتحسن المستمر في العلاقات مع إيران، لمعالجة الأزمة اليمنية، وتهدئة الأوضاع في لبنان و|العراق. أما مصر وبعد النجاح الذي حققته في وقف حرب غزة بالتعاون مع واشنطن وقطر وتركيا، تتمتع بثقة عالية من الإدارة الأميركية، ومدير المخابرات اللواء حسن رشاد على علاقة مباشرة مع مستشار الرئيس الأميركي ويتكوف ورئيس الحكومة الإسرائيلية السيِّىء الذكر نتنياهو، الأمر الذي من شأنه أن يُسرِّع وتيرة المفاوضات، ويضع حداً للمماطلة الإسرائيلية المعروفة لتأخير الإنسحابات.
وهنا لا بد لنا أن نتحرر من عقدة التفاوض مع العدو الإسرائيلي، طالما أن الهدف الأساس يبقى تأمين الإنسحابات الإسرائيلية وتحرير الأراضي اللبنانية المحتلة. والمفاوضات في حقيقة الأمر هي حرب على بساط ديبلوماسي عوض أن تكون في الميدان العسكري.
لبنان اليوم أمام امتحان تاريخي: إما أن ينتصر لمنطق الدولة ويحصِّن سيادته من الداخل، أو يواصل الدوران في حلقة مفرغة من الحروب المدمِّرة التي لا تُبقي ولا تذر. وفي زمنٍ يتسابق فيه الخراب مع الأمل، يبدو أن الخطر الحقيقي ليس في تهديدات إسرائيل وحدها، بل في غياب القرار الواحد الذي يحمي الوطن من نفسه قبل أعدائه.
صحيفة اللواء