قوانين الهيمنة باسم "المواطنة" _ رفيق خوري


رفيق خوري

في القرن التاسع عشر رأى المفكر الفرنسي ألكسيس دو توكفيل خلال تجربته في أميركا "أن الانتخابات ثورات دستورية، وكل جيل هو شعب جديد". وفي القرن الحادي والعشرين تبدو الانتخابات في لبنان دون ما كانت عليه في القرن العشرين، وبعيدة جداً من كونها ثورات دستورية. اما كل جيل جديد، فإنه يعود إلى مناخ سياسي أكثر ضيقاً مما كان عليه الشعب القديم.

نصف المشكلة في قوانين الانتخاب التي يتم تفصيلها على قياس الطرف المهيمن محلياً أو خارجياً. والنصف الآخر في تراجع الحياة الحزبية عن النقاش الفكري والمناخ الثقافي إلى صراع الهويات والخصوصيات والعصبيات، بحيث تبدو الأحزاب أقرب إلى المجتمع الأهلي منها إلى المجتمع المدني. لا بل إن زمان الكتب والدراسات والبرامج السياسية والاقتصادية طغى عليه عصر "التشاتم الاجتماعي" عبر ما يسمى "الذباب الإلكتروني". ولدينا، مع استثناءات محددة، سياسيون، لا رجال دولة، يتشاطرون في إدارة أزمة نظام لا يفهمون جوهره، ولا يريدون حلًا جذريًا له، ولا يستطيعون التوصل إلى تسويات.
ولعل لبنان واحد من بلدان قليلة تحتاج إلى قانون انتخاب مختلف كل دورة. والاستثناء الوحيد بدأ مع العهد الشهابي واستمر حتى العام 1972، وهو إجراء الانتخابات في دورات عدة على أساس قانون القضاء والنظام الأكثري. والوقت حان للاتفاق على قانون انتخاب تتم تجربته في أكثر من دورة قبل السعي لتغييره. فالقانون الذي أُجريت على أساسه انتخابات العام 2022 ليس مثاليًا بالطبع. وأسوأ ما فيه هو قطع المغتربين عن أهلهم ودوائرهم الانتخابية وإجبارهم على انتخاب ستة مقاعد تمثل القارات، وإصرار "الثنائي الشيعي" و"التيار الوطني الحر" على الوقوف في وجه أكثرية نيابية مسيحية وسنية ودرزية تطالب بإلغاء المقاعد الستة. لكن البدائل المطروحة ليست واقعية، وإن أوحت أنها مثالية في أجواء طائفية ومذهبية متوترة.

ذلك أن ما حدث بعد اتفاق الطائف كان التحرك عكس السير في مكان، والجمود في مكان آخر. وكله بقوة الوصاية السورية والإيرانية والمصالح المحلية الضيقة. فلا الهيئة الوطنية لدرس السبل الآيلة إلى تجاوز الطائفية جرى تأليفها. ولا إجراء انتخابات نيابية خارج القيد الطائفي كان ممكنًا ومفيدًا في مثل هذا المناخ. والمعنى البسيط لإنشاء مجلس شيوخ في ظل مجلس نيابي ضمن التمثيل الطائفي هو أن يصبح لنا "مجلسا شيوخ" إن لم يكن الهدف هو مجرد المزايدة وبيع الهواء. أما الدعوة إلى قانون انتخاب حسب النظام النسبي على أساس لبنان دائرة واحدة ومن دون قيد طائفي،فإنها وصفة لهيمنة مذهبية بقوة العدد، وليست الطريق إلى الدولة المدنية، دولة المواطنة. وبصرف النظر عن النيات، فإن الوقائع تؤكد أن قمة السخرية السياسية هي الذهاب إلى دولة المواطنة في قطار أحزاب طائفية ومذهبية وبعضها ديني.

والواقع أنه لا شيء يضمن الميثاقية والتعددية سوى التعدد داخل كل طائفة، بدل الأحادية. ولا مهرب لضمان الانتظام الدستوري من إعادة صلاحيات تفسير الدستور إلى المجلس الدستوري، كما كان القرار في الطائف. فالميثاق الوطني، كما قال إدمون رباط، "وجد كوظيفة في خدمة الهدف الدستوري، وعليه أن يؤدي إلى الاندماج الوطني الذي يمتص الخصوصيات الدينية والمناطقية، ويغذيه قيام الحس الوطني المندفع إلى إقامة الدولة". ولسنا في هذا الوضع اليوم، حيث يتم توظيف الميثاقية في خدمة النافذين. ولا لدينا ما سماه بنديكت أندرسون في "مجتمعات متخيّلة" صناعة "أسطورة تاريخية تعزز الاعتقاد بأن مواطني الأمة مواطنون موحدون منتصرون".

"قليل من المعرفة شيء خطير" يقول الشاعر الروسي ألكسندر بوب. لكن الفيلسوف أشعيا برلين يضيف إلى ذلك "الحاجة إلى فهم أكثر من المعرفة".

صحيفة نداء الوطن
قوانين الهيمنة باسم "المواطنة" _ رفيق خوري