إياد الدليمي
كنت في زيارة قصيرة إلى دمشق، في العام 2006. التقيت فيها زميلاً عراقياً جمعني بزميل ثالث سوريّ، كان يعمل ضمن فريق تأسيس قناة الدنيا، التي لم تكن قد انطلقت بعدُ. كنّا يومها، نحن العراقيين، لا نعرف كيف يمكن للسوريين أن يكونوا مع المقاومة العراقية (السُنّية)، وأن يكونوا أيضاً جزءاً من محور إيران، خاصّة بعدما شاهدنا كيف كانت صور أمين عام حزب الله حسن نصر الله تُرفع في البيوت، وليس في الأماكن العامّة فقط، مرفقةً بعلم الحزب الأصفر.
حاول زميلنا السوري أن يفكّك طلاسم هذه العلاقة المتناقضة، فزاد بالشرح، وحاول أن يحدّثنا أن الشعب السوري مع مبدأ المقاومة، مقاومة كلّ محتل، بغض النظر عن الطرف الذي يقاوم، ثم راح شيئاً فشيئاً يكشف لنا ما اعتبرناه يومها سرّاً. قال إن هناك معسكرات للحرس الثوري الإيراني خارج دمشق، بُنيت منذ ثمانينيّات القرن الماضي، وهي مناطق محظورة لا يمكن الاقتراب منها أو التصوير، إذ يدرّب عناصر ومستشارون في الحرس الثوري مجاميعَ مسلّحةً، فلسطينية ولبنانية، وبعد ذلك ضمّت عناصر عراقية... على الرغم من الاختلاف الأيديولوجي بين النظامين (يتبنّى النظام السوري القومية العربية العلمانية، بينما اعتمد النظام في إيران على الإسلام الشيعي أساساً لسياساته)، إلا أن المصالح المشتركة طغت على هذه التناقضات، فدعمت دمشق طهران خلال الحرب العراقية الإيرانية (1980 - 1988)، ما جعلها الدولة العربية الوحيدة التي تقف إلى جانب طهران في هذا الصراع، وهو ما عزّز الثقة المتبادلة بين البلدين.
قبل أيّام، كانت سورية على موعد مع موجة عنف ومواجهات شنّتها فلول النظام السابق، أدّت إلى مقتل مئات، وسط حديث عن أدوار خارجية لعبتها دول في التخطيط لهذه العملية، تبدأ من دعم لوجستي قدّمه العراق، إلى التخطيط الإيراني والإدارة عبر المستشارين، بالإضافة إلى قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي يبدو أنها ما زالت ترفض استيعاب الواقع الجديد. قد لا يحتاج الحديث عن الدور الإيراني في أحداث الساحل السوري إلى كثير أدلّة. يمكن أن تُراجع فقط التصريحات الإيرانية التي صدرت من أعلى رأس الهرم، المرشد علي خامئني، مروراً بالرئيس ووزير الخارجية، وصولاً إلى قادة كبار في الجيش الإيراني، لتدرك أن طهران لم تتقبّل بعد خسارة 40 عاماً من الاستثمار في سورية، بدأتها بتعاون أمني وتنسيق عسكري بعد قيام ثورة 1979 في إيران، وصولاً إلى أن تكون إيران الفاعل الأول في سورية في المجالات كافّة.
لقد شكّل سقوط نظام بشّار الأسد صدمةً كبيرة لإيران، بل يمكن القول إنها كانت الضربة الأكثر تأثيراً، ففقدت إيران أحد أكثر أوراقها أهمية، التي لطالما استخدمتها في مفاوضاتها مع الغرب بشأن ملفّاتٍ عدّةً لعلّ في صدارتها النووي الإيراني. بل أكثر من ذلك، حاولت إيران، ومع الأيام الأولى لتغيير النظام، أن تتكيّف مع الوضع الجديد من خلال تصريحات بدت مرنةً، إلا أن سادة دمشق الجدد في ما يبدو لم يردّوا التحية الإيرانية.
طوال أكثر من أربعة عقود، عُرف عن إيران أنها تمارس سياسةً براغماتيةً بحتة في مختلف القضايا، وهي غالباً ما كانت تُظهر شيئاً وتُبطن خلافه. فعلى سبيل المثال، عندما بدأت الحشود العسكرية الأميركية والبريطانية تستعدّ لغزو العراق، كانت طهران تُعلن ليل نهار أنها ضدّ الغزو الأميركي، بل كانت قناة العالم الإيرانية (الناطقة باللغة العربية) تتحدّث بلسان النظام العراقي، بينما واقع الحال كان خلاف ذلك، إذ كان النظام ينسّق مع الأميركان، وفقاً لما كشفه السفير الأميركي زلماي خليل زاده، وكانت إيران تُدرّب المليشيات العراقية في أراضيها من أجل أن تدخل العراق، فضلاً عن لقاءاتٍ جرت بين مسؤولين أميركيين وإيرانيين منذ 1998، للتنسيق لعملية غزو العراق.
هذه إيران، وهكذا كانت تتعامل مع قضايا المنطقة، إلا أن تعاملها مع سورية بعد التغيير كان مختلفاً تماماً، فلم تتمكّن من كبح جماح شعورها المرير بالخسارة، وكانت التصريحات من قادتها عدائيةً بالكامل، إذ تخلّت عن لغة الدبلوماسية والازدواجية، وراحت تعلن عداوتها الواضحة للواقع السوري الجديد، حتى خرجت تصريحات تَعِد الإيرانيين بأن سورية ستعود قريباً إلى "محور المقاومة". وتشير المعلومات والتقارير الإعلامية المنشورة بشان ما جرى في مدن الساحل السوري بأصابع الاتهام إلى إيران، خاصّة في ما يتعلّق بالتخطيط والتنفيذ، ناهيك عن إدارتها حرباً إعلامية رافقت العمليات التي جرت في سورية خلال الأيام الماضية.
ويبقى السؤال المثير للاهتمام: لماذا تخلّت إيران عن سياستها التي اعتادت عليها في التعامل مع قضايا المنطقة، السياسة الباطنية؟ هل لأن الأمر متعلّق بسورية وشعورها بعظيم ما فقدت، أم أن للأمر علاقة بتصدّعات داخل كيان النظام الإيراني حيال الطريقة التي يجب التعامل بها مع المتغيّرات التي شهدتها المنطقة، وأيضاً الوعيد الأميركي الذي يمثّله الرئيس دونالد ترامب؟ ... ما يمكن قوله، حتى الساعة، إن إيران بدأت تشعر بعِظَم تحدّيات المرحلة المقبلة، وهو ما قد يدفعها إلى التخلّي عن لغتها الدبلوماسية حيال قضايا عديدة، فضلاً عمّا بات يرشح من وجود خلافات بين كبار ساسة النظام، دفعت مستشار الرئيس محمد جواد ظريف إلى تقديم استقالته.
العربي الجديد