معن البياري
ذاعت طويلاً تلك العبارة المدرسية "اعرف عدوّك" في أوساطٍ عربيةٍ عريضة. ويتذكّرها صاحب هذه السطور في صباه في المدرسة مطلباً وواجباً، وكانت تلحُّ عليها وسائل الإعلام في أزمنتها التقليدية. ولمّا راجت مراكز أبحاثٍ ودراساتٍ في جامعات ومعاهد عربية بشأن الصهيونية وإسرائيل، كان الدافع لمشاغلها أن نعرفَ عدوّنا. وظلّ هذا الشاغل محموداً وما زالَ كذلك، فنحن مدعوون، دائماً وأياً كانت مواقعُنا ومسؤولياتُنا، إلى أن نعرف خرائطَ إسرائيل السياسية والأمنية والاقتصادية والمجتمعية وكلَّ شؤونها، فحضورُها الثقيل، وشديد الفداحة والفظاعة، في الفضاء العربي، يفرض أن نظلّ مهجوسين بهذا الأمر. ولئن استقرّ في الوعي العام أن منتوجاً وفيراً من الدراسات والأبحاث والكتب والمطالعات المتخصّصة أنجزته الأكاديميا العربية، ومعها أهل الإعلام والمعرفة والفكر والثقافة بالمعنى العريض، عن إسرائيل، على غير صعيد، فقد استقرّ أيضاً أنّ نُخبَنا، بل وكثير العموم منّا، على معرفةٍ طيبةٍ بدولة الاحتلال واستيطانها وجرائمها وكيفيات إنشائها، وإنْ تفتقر مناهج التدريس العربية، منذ عقود، لتعريفٍ لازمٍ بها، فضلاً عن افتقارٍ ظاهرٍ للتعريف بتاريخ القضية الفلسطينية ومساراتها، وقد كشفت استطلاعاتٌ وأبحاثٌ وتقارير إعلاميةٌ فقراً فادحاً بين التلاميذ العرب، سيّما في بلدانٍ معيّنةٍ دون غيرها، في درايتهم بالحروب التي توالت على فلسطين، لكنك في الوسع أن تقول إنّ إسرائيل، نفسها، بحزمة الجرائم اليومية التي تقترفها في غزّة والضفة الغربية، وباعتداءاتها المتكرّرة على لبنان وسورية واليمن، وقبل ذلك على تونس والعراق (لمن يتذكّر)، تتكفّل بتعريف الناشئة العرب بنفسها. وهذه المَسيرات والاعتصامات والاحتجاجات التي يُسمح بها في غير بلد عربي تفيد بأنّ حضور فلسطين في الوجدان العربي لم تخدشه كل اتفاقيات التطبيع، وأن العداء لإسرائيل لم تُضعفه جبال اليأس والإحباط والكُساح العربية.
يأخذنا اكتمال 600 يوم على حرب الإبادة النشطة في غزّة إلى افتراضٍ آخر، أنّ ذلك الظنّ عن معرفتنا، في أوساط الأكاديميا والإعلام والثقافة، عربيّاً، بإسرائيل ليس في محلّه، فلا أحد، وأستطيع التأكيد هنا بلا حرجٍ من مغالاةٍ أو مجازفة، ذهبت قناعاتُه إلى أن هذه الحرب ستصل إلى هذا المدى من التوحّش الإجرامي الذي يفوق التخيّل في فداحته، تنكيلاً وتجويعاً وقتلاً وتدميراً ونهباً وتخريباً وتهجيراً، ولا إلى هذا المدى الزمني الذي لا يتبيّن له سقفٌ ما، فأحاديثنا الخاصة ودردشاتنا، ومشاركاتنا في الفضائيات أيضاً، في الأسابيع الأولى التالية لواقعة 7 أكتوبر، ومع الجموح الشنيع الذي أخذته الحرب، لم يُؤتَ فيها على مثل هذا الاحتمال، وكنّا نُصاب بالروْع والفزع ممن قد يجنح به القول إلى أنّ الحرب قد تستمرّ ثلاثة شهور أو أربعة، وأن عدد الشهداء فيها قد يصل إلى 15 ألفاً، حتى إذا ما اقترب صيف العام الماضي، لم يكن مُتَصوّراً عند عمومٍ عريضٍ أن الحرب ستستمرّ أكثر، وقد قال مَن قال إنها لن تصل إلى عام، وإن حدثَ، متأخّراً، أنني سمعتُ من عارفٍ، من أبناء القطاع، أنها ستتجاوز عامها الأول، وأنّها ماضيةٌ "إلى الآخر". لقد توطّنت هذه القناعة واتّسعت تالياً، أي بعد أن انكشف تماماً، وبأوضح من الوضوح نفسه، أنّ نتنياهو لن تردعَه ململة إسبانيا وبلجيكا، ولا حتّى فرنسا، ثم بريطانيا أخيراً، ولن يحفل بمحكمتي الجنايات والعدل الدوليتين، ولن يُقيم وزناً للأمم المتحدة وأجهزتها، وأنّ في وسعه أن يطردها من غزة، وأن يمنعها من مزاولة مهماتها الإغاثية هناك.
ما تبيّن أنّ الذين أخذوا، جادّين ومحقّين ومخلصين، بدرس "اعرف عدوّك" لم يعرفوه تماماً، وأنّ جهوداً ثقيلة وطويلة ما تزال ملحّةً يحسن تأديتُها، لنعرف هذا العدو الذي "تُفاجئنا" حربُ الإبادة التي يرتكبها في غزّة بأنه لم يغادر عقلية عصابات الأرغون وشتيرن وأمثالهما عند إقامة دولته العنصرية. نكتشف إسرائيل التي لا نعرفها، ونكتشف جهلنا الطويل بها. إسرائيل التي تعيش اليمين المتوحّش وتُقيم فيه، وتزداد فيها العنصرية غلواً وشططاً. وهذه 600 يوم، ويُزاد عليها ما لن نعرف من أيام وأسابيع وشهور، تعرّفنا بإسرائيل التي تعايشنا، زمناً، بشأنها مع خرافة صقور وحمائم فيها، ثم ها نحن نخبط رؤوسنا بحيطانٍ بلا عدد، ونحن في بؤس ثقيل، عندما لا نقدر على عدّ الشهداء والجرحى والجوعى في غزّة المتروكة للذئب الإسرائيلي المفترس.
العربي الجديد