هشام بو ناصيف
التراجع الكبير في أسواق الأسهم الأميركيّة الذي بدأ بعد إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب فرض تعرفات جمركيّة غير مسبوقة على البضائع الواردة إلى الولايات المتّحدة، كارثة اقتصاديّة أسوأ ما فيها انعكاساتها على صناديق تقاعد عشرات ملايين الأميركيّين الذين خسروا كثيراً في الأيّام الأخيرة، ومن المرجّح أن يخسروا أكثر بعد.
حصل ذلك بعد أن أمضى ترامب الأشهر الأولى من رئاسته بالانتقال من مواجهة إلى أخرى مع الدول الديمقراطيّة الليبراليّة الغربيّة، الحليف التقليدي لبلاده، وبالتودّد لفلاديمير بوتين. الكلام الصادر من كندا تحديداً، وليس فقط على مستوى النخب السياسيّة، بل الناس العاديّين، يوحي بشرخ غير مسبوق استجدّ بينها والولايات المتّحدة. أمّا التوتّر في العلاقات الأوروبيّة - الأميركيّة، فأخطر ما فيه أنّه يضع مصير حلف شمالي الأطلسي (الناتو) على المحكّ. يحصل كلّ ذلك، في المعسكر الليبرالي، بينما تبدو الأمور مستقرّة في المقلب الآخر، الذي يجمع تحت عباءة الحزب الشيوعي الصيني، فلاديمير بوتين، وملالي طهران، والنظام الكوري الشمالي.
لا ضرورة لكثير تبحّرٍ في العلاقات الدوليّة لفهم ما يلي: 1) يرى دونالد ترامب - عن حقّ - أنّ الصين هي الخصم الأوّل لبلاده. 2) يحاول أن يكرّر ما فعله في ما مضى الثنائي نيكسون – كيسنجر يوم سلخا الصين الشيوعيّة عن الاتّحاد السوفياتي، ولكن بالمقلوب، بمعنى أنّ ترامب يسعى لسلخ روسيا عن الصين. تدفع أوكرانيا، ومعها كلّ أوروبا، ثمن هذا النوع من الجيوبوليتيك المغامر. والخوف، كلّ الخوف، من أن تفشل الولايات المتّحدة مرّتين، بمعنى أن تخسر أوروبا من دون أن تربح روسيا، بينما تتابع الصين مساراً صعوديّاً أخطر ما فيه أنّه يزيد من جاذبيّة نموذج الحزب الواحد الحاكم، بينما تتخبّط الليبراليّة.
ولكنّ أخبار الغرب المثيرة للقلق عليه لا تتوقّف فقط على الاقتصاد والعلاقات الدوليّة، بل تشمل أيضاً (وربّما أوّلاً)، الأحوال الداخليّة، سياسيّاً، وقيميّاً، لدوله. الهجرة الكثيفة إليه، ولا سيّما تلك الآتية من العالم الإسلامي، أعادت تحريك سياسات الهويّة على المستوى الديني/الطائفي، بينما كانت سيرورة المجتمعات الغربيّة وضعت الاستقطابات المتعلّقة بها وراءها، أو هكذا بدا على الأقلّ.
ثمّ أنّ النيوليبراليّة التي خلقت رابحين كثراً، بمن فيهم ملايين الغربيّين الذين انضمّوا إلى الطبقات الوسطى، خلقت خاسرين أيضاً، وهؤلاء هم القاعدة المجتمعيّة العريضة للشعبويّين اليمينيّين في المجتمعات الغربيّة. يعلم الشعبويّون أنّ معاقل أربعة تحدّ من هامش حركتهم وشبقهم للسلطة، عنيت الدساتير الناظمة للحياة السياسيّة، والإعلام، والجامعات، والقضاء. ليس صدفة تالياً أن تكون كلّها في دائرة الاستهداف في الولايات المتّحدة في ظلّ رئاسة ترامب، ولكن ليس فقط فيها، وربّما يكون هذا أخطر (وأبشع) ما يحدث في الغرب حاليّاً.
ولا يعني ذلك بالضرورة أنّ الديمقراطيّة الغربيّة تنهار. هي صمدت في ما مضى، وخلّصت نفسها، والعالم، من شرور النازيّة والشيوعيّة والأنظمة الأوتوقراطيّة في الدول النامية، فضلاً طبعاً عن الاتّجاهات الرجعيّة بالمجتمعات الغربيّة نفسها، من الماكارثيّة، إلى الكو كلاكس كلان، إلى جون بيرش سوسايتي، وما شاكل. يبقى، مع ذلك، أنّ الأزمة الغربيّة جديّة ومرشّحة للاستمرار على المدى المنظور.
لماذا ينبغي أن نكون معنيّين كلبنانيّين؟ الجواب مزدوج. أوّلاً، من الناحية القيميّة، الجمهوريّة اللبنانيّة بنيت منذ الأساس على نفس القيم الليبراليّة التي تهتزّ حاليّاً في معقلها الغربي. ليس صدفة أنّ الانقلابات العسكريّة ليست تقليداً عندنا (بخلاف الجوار)؛ ولا نظام الحزب الواحد الحاكم نظامنا (بخلاف الجوار)؛ وحريّاتنا العامّة فعليّة (بخلاف الجوار). بالحقيقة، من وجهة نظر ليبراليّة، دول كالولايات المتّحدة أو كندا هي جمهوريّات شقيقة للبنان، بينما سوريا دولة أجنبيّة ونقيض بلادنا قيميّا. ثانياً، لم يتمكّن اللبنانيّون مرّة من تحقيق انتصار على الجوار الذي يكرههم، الّا بدعم غربي. كانت هذه المعادلة صحيحة يوم تحرّر اللبنانيّون من الكابوس العثماني (بعد أن هزمه البريطانيّون عام 1918)؛ ويوم أنشأوا لبنان (بمساعدة فرنسا عام 1920)؛ ويوم تخلّص اللبنانيّون من وقاحة عبد الناصر وتدخّله بما لا يعنيه (بعد أن هزمه الأميركيّون بالواسطة عام 1967)؛ ويوم تخلّصوا من الاحتلال السوري (بمساعدة فرنسيّة - أميركيّة عام 2005). ولا تزال هذه المعادلة صحيحة اليوم إذ يتمّ تعديل موازين القوى بين اللبنانييّن والمشروع الشيعي في لبنان والمنطقة.
ليس القصد هنا القول إنّ الغرب القوي بالضرورة حليف لبنان؛ ولكنّ الأكيد أنّنا لم نتمكّن يوماً من صدّ الكوابيس المحيطة بنا في العالمين العربي والإسلامي بدون غرب قوي وداعم. يخطئ كثيراً، تالياً، من يرى منّا في اليمينيّين الشعبويّين الغربيّين حلفاء له؛ لا قيمهم قيمنا، ولا سياستهم التي تضعف الغرب تفيدنا على المدى البعيد.
صحيفة نداء الوطن