عهد وحكومة الاستقلال الثاني _


العميد الركن نزار عبد القادر

بعد خطاب القسم الذي ألقاه الرئيس جوزف عون أمام مجلس النواب بعد انتخابه رئيساً للجمهورية، يشكل البيان الوزاري الذي ستتقدم به حكومة «الاصلاح والانقاذ» برئاسة نواف سلام، خلال هذا الاسبوع، لنيل الثقة من مجلس النواب، اعلاناً حقيقياً للاستقلال الثاني، لقد بدأ لبنان بفقد مقومات الاستقلال الاول منذ بدايات عام 1969، واستمر بفقدان هذه المقومات التي اعلنتها حكومة الاستقلال الاولى عام 1943، الواحدة تلو الاخرى طيلة عهد سيطرة المقاومة الفلسطينية على الجزء الاكبر من السيادة اللبنانية، الى حين خروجها من لبنان عام 1982 بعد الغزو الاسرائيلي الى لبنان، وصولاً الى قلب العاصمة بيروت. ولم يطل الامل باستعادة لبنان لسيادته مع بداية عهد الرئيس امين الجميل، حيث عاود نظام حافظ الاسد بمعاونة حلفائه اللبنانيين هجومه من البقاع باتجاه بيروت لاعادة احتلالها، وفرض وصايته الكاملة على كل مقدرات البلاد بما فيها مؤسسات الدولة العسكرية والامنية. واستمرت هذه الوصاية، والتي كانت تعمل على تخريب الدولة بالكامل، تمهيداً لالغاء جميع مقومات الاستقلال الى حين اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في 14 شباط 2005.
لكن ادى انطلاق مظاهرة مليونية في وسط بيروت يوم دفن الرئيس الحريري، الى هلع النظام السوري، والذي اقتنع ان ساعة تنفيذ القرار الدولي 1559 قد دقت، وبأن عليه مغادرة لبنان في اسرع وقت ممكن، تاركاً لبنان ساحة مفتوحة لثنائي النفوذ الايراني، من خلال اطلاق يد حزب الله للحكم تدريجياً بالقرارين السياسي والامني، وبالتالي امتلاك قرار السلم والحرب بعد ان نجحت الدويلة في انتزاع كل حكومات السيادة والاستقلال، بعد حرب 2006 بين حزب الله واسرائيل، وعودة حزب الله الى الداخل بكامل سلاحه ليعلن بأنه قد حقق انتصاراً إلهياً، لقد تحكّم حزب الله سياسياً وعسكرياً بجميع القرارات الوطنية، الى حد تعطيل مؤسسات الدولة الاساسية، من انتخابات رئاسة الجمهورية الى تشكيل الحكومات، وإرهاب القضاء وتعطيل عمله واحكامه. بات لبنان الرسمي تحت رحمة مشيئة وقرارات حزب الله، في الداخل وعبر الحدود، وباتت الدولة عاجزة عن اتخاذ اي قرار لا يوافق عليه الحزب مسبقاً.
طُلب منِّي في بدايات عام 2024 من قبل اصدقاء يمثلون تياراً نيابياً معارضاً وواسعاً، ان اكتب لهم تصوراً للظروف التي يمكن من خلالها استرجاع سيادة واستقلال لبنان من هيمنة حزب الله، تمهيداً لانتخاب رئيس للجمهورية، وتشكيل حكومة فاعلة وقادرة على اعادة بناء دولة الاستقلال من جديد، وخرجت في توصيتي من خلال الورقة التي كتبتها بأنه لا بد من انتظار وصول «البرهة المؤاتية» دولياً وعربياً وداخلياً، لانتخاب رئيس للجمهورية، وتشكيله حكومة فاعلة، تسحب من حزب الله «الشرعية» التي فرضها على الحكومات المتعاقبة من خلال بياناتها الوزارية من خلال ثلاثية ذهبية «الجيش والشعب والمقاومة»، وبالفعل وكما تصورت في ورقتي فقد تأمنت الظروف الداخلية والاقليمية والدولية بحلول «البرهة المؤاتية لانتخاب رئيس سيادي للجمهورية، وتكليف القاضي نواف سلام بتشكيل حكومة من خارج المجتمع السياسي التقليدي، الذي كان قد روّضه وأخضعه لسيطرته الكاملة حزب الله بكل الوسائل المتاحة.
وبالفعل فقد تحققت كل الظروف الملائمة لهذه «البرهة المؤاتية» للبنان للإفلات من براثن الهيمنة التي فرضها عليه حزب الله والوصاية الايرانية بدءاً من الاهتمام المركز والضغوط التي مارستها اللجنة الخماسية الممثلة للمجتمعين الدولي والعربي، وتبعتها قرار حزب الله بالدخول بقرار ذاتي ومنفرد لحرب غزة، وبرعاية ودعم ايرانيين، والتي اظهرت ان حزب الله الذي ادعى القدرة على ردع اسرائيل وحماية لبنان،هو غير قادر على حماية نفسه من قدرات اسرائيل المتفوقة عسكرياً واستخباراتياً.
كما فشلت ايران من تقديم اي دعم فعلي للحفاظ على موازين القوى بين الحزب واسرائيل. وجاءت التطورات الميدانية المفاجئة في سوريا والتي ادت لسقوط نظام بشار الاسد وانهاء الوجود والنفوذ الايراني في سوريا، وبالتالي قطع طريق الامداد الرئيسي لحزب الله بالسلاح والمال عبر سوريا، كما انتهت بتصفية كل التواجد العسكري للحزب في سوريا، والتي شكلت العمق الاستراتيجي للمواجهة مع اسرائيل، عملانياً ولوجستياً.
بعد نتائج الحرب المدمرة التي تلقاها حزب الله من الهجوم الاسرائيلي جاء انتخاب الرئيس عون وخطاب القسم بمثابة الانذار الاول لحزب الله، بأنه قد حان الوقت لاستعادة الدولة سيادتها، وحصر السلاح بالمؤسسات العسكرية والامنية فقط دون سواها. كما فتحت الطريق لتسمية رئيس حكومة من خارج الوسط السياسي، مع الحرص الذي ابداه لتشكيل حكومة، من الكفاءات المستقلة، والتي انتهت بتشكيل الحكومة الراهنة، والتي حملت بعض الشوائب غير المعطلة او القاتلة.
ناقشت الحكومة بيانها الوزاري اول امس بحضور الرئيس عون، والذي جاء بمثابة اعلان لبدء مرحلة جديدة، تشكّل في رأينا اعلاناً كاملاً للاستقلال الثاني للبنان.
سبقت جلسة مراجعة البيان الوزاري في مجلس الوزراء عدة اختبارات حضَّر لها حزب الله لامتحان قدرة الحكومة، على اتخذا القرار بمواجهة محاولات تخريب الاستقرار والسلم الاهلي، وكان بعضها داخلياً كعراضات الدراجات المستفزة للرأي العام اللبناني، ومن ثم المظاهرات الفتنية لقطع طريق المطار، مع ما رافقها من اعمال تخريب واعتداء على القوات العسكرية.
وكانت الحجة للاعتراض على قرار السلطة لمنع هبوط طائرة ايرانية تحمل اموالاً لحزب الله من طهران، وذلك على خلفية انذار اميركي بأن اسرائيل ستضرب المطار في حال السماح للطائرة بالهبوط، وان اللافت، وكالعادة ان يلجأ حزب الله للتهرب من المسؤولية الى ربط ما يحدث على الارض بجماعات فوضوية متفلتة، وبالتالي باعتماد «التقية» التي طالما اعتمدها، والتي كان قد عبّر الرئيس الراحل سليم الحص في محاضرة في الجامعة الاميركية عنها بقوله «بأن المصيبة تكمن بأننا نقول ما لا نُضمر ونُضمر ما لا نقول».
كان اللافت اول امس بأن الحكومة بكامل مكوناتها وافقت على البيان الوزاري، والذي يؤكد على السير قدماً في عملية بناء الدولة الفاعلة.
اظهرت البنود الاساسية للبيان الوزاري بأن الحكومة هي جادة لاستعادة السيادة الوطنية، والامساك بقرار السلم والحرب، وبالتالي انتزاعها من يد حزب الله، والتي بات يتمسك بها كلياً منذ انتهاء حرب 2006. وكان بند تنفيذ الالتزام بقرار 1701 بمثابة تأكيد على دور الجيش واليونيفيل دون غيرهما بالحفاظ على امن الجنوب في مواجهة التهديدات الاسرائيلية، وبالتالي اعلان انتهاء كل الادوار التي كان الحزب يحتكرها منذ عام 2006. وخرجت الدولة عن حيائها في اعطاء الجيش حقه من خلال تأكيد بأنه جيش يملك عقيدة قتالية، وعلى استعداد لحماية الشعب والبلد وفقاً لأحكام الدستور. وتأكيداً على نفي وجود أي دور للمقاومة في تحرير الاراضي المحتلة، فقد نصّ البيان على التزام الحكومة باتخاذ الاجراءات اللازمة لتحرير الاراضي اللبنانية من الاحتلال الاسرائيلي.
برأينا شكّل البيان الوزاري ببنوده الاساسية القرار الصارم للحكومة لاستعادة السيادة والاستقلال الثاني للدولة اللبنانية.

صحيفة اللواء
عهد وحكومة الاستقلال الثاني _ العميد الركن نزار عبد القادر