سوريا والشرخ الطائفي العميق _


بشار حيدر

لا يمكن وصف ما حدث في الساحل السوري خلال الأيام الماضية إلا بالكارثي على المستويين الإنساني والسياسي. وبغض النظر عن الدور التخريبي المفتعل لما يسمى بفلول الأسد ومن وراءهم، يبقى أن رد الفعل الانتقامي للقوى المسلحة التابعة للإدارة الحالية كان فظيعاً وفاقداً لأدنى المعايير الإنسانية. وهذا ما تنجم عنه طبعاً نتائج وخيمة على مستقبل السلم الأهلي في المناطق ذات الثقل العلوي وربما في باقي سورية.

لا غرابة في أن تكون هناك رغبة قوية وعميقة في الانتقام، بعد عقود القهر والذل الطويلة التي توّجت بعشرية قُتل وعُذب فيها مئات الآلاف وشُرد الملايين. وقد أتت الظروف الأخيرة لتحول هذه الرغبة بالانتقام إلى فعل يصعب لجمه أو تدارك تبعاته.

كان المأمول أن يخفف الانتصار السهل وغير الدموي على نظام الأسد من هذه الرغبة في الانتقام، وأن تحل مكانها رغبة في النجاح وابتهاج بالنصر. لكن هذا لم يحصل. فما جرى في سورية خلال حكم الأسدين كان أقسى من أن يتم تجاوزه ببضعة أشهر. لقد خدعتنا أمنياتنا وسلاسة سقوط الأسد للاعتقاد بخلاف ذلك.

بالرغم من هذا، سيكون من الطبيعي والمطلوب أن تتجه أصابع اللوم إلى النظام الجديد، أولاً، لأنه أضحى اليوم المسؤول الأول عن أمن البلاد، وإن كانت سلطته لا تزال طرية العود، وثانياً، وهو الأهم، كون الأعمال الانتقامية الأخيرة قد حصلت على يد قوات تابعة له أو محسوبة عليه. لذا على هذا النظام الإقرار بالمسؤولية عما حصل.

لكن ضرورة إلقاء المسؤولية على النظام السوري الجديد في أحداث الساحل، لا تعني سهولة الحؤول دونها. فالعلويون الذين داهمهم الخوف والقلق، لم يكونوا مستعدين للانقلاب المفاجئ في الأدوار. كما لم يظهروا حساسية تُذكر حيال ما اقترفه علويون في السابق بدعمهم للنظام الأسدي. أما الجمهور السني، المعجون بالقهر والغضب، فاعتبر امتناعه في البداية عن الأخذ بالثأر منّة لم يقدّرها العلويون الذين انتقلوا مباشرة وبلا حرج إلى خانة الضحايا المطالِبين بالضمانات، بدلاً من القيام اولاً بفعل اعتذار من ضحايا نظامهم البائد.

هذا الشرخ الطائفي العميق كان كافياً لرفع احتمالات العنف الأهلي، بغض النظر عن سلوك السلطة الجديدة أو عن خلفيتها السلفية الجهادية. فحتى لو هُزم نظام الأسد على يد ما كان يعرف بـ»الجيش السوري الحر» بدلاً من أن يهزم على يد «هيئة تحرير الشام»، لما كان تفادي المواجهة الأهلية التي نراها اليوم في الساحل السوري ليكون أسهل. أما تحويل الأنظار إلى الجانب الأيديولوجي فلا يساعد على فهم أسباب العنف الأخير ولا يساعد بالتالي على تجاوزه.

فعلى خلاف عنف مجموعات «الدولة الاسلامية» (داعش) في العراق وسورية والذي طغى عليه الجانب الأيديولوجي المتطرف وكان الكثير من ضحاياه من المسلمين السنّة، لم تمارس قوى السلطة السورية الجديدة عنفاً يذكر على قاعدة أيديولوجية دينية. ولا شك أن ضمور العامل الأيديولوجي وطغيان الجانب الطائفي في مواجهات الساحل السوري الأخيرة لا يجعلانها أقل سوءاً. فما يفعله ذلك هو أن يضع أسبابها خارج تلك المرتبطة بالتطرف الديني الإسلامي وبالتالي خارج نطاق الاعتراض السائد على طبيعة الحكم السوري الجديد.

كذلك فإن المنحى الطائفي للنزاع لا يجعله أكثر قابلية للحل بالمقارنة مع النزاع الديني الأيديولوجي. لا بل ربما يجعله أكثر استعصاءً. وهذا أمر خبره اللبنانيون والعراقيون جيداً تبعاً لمعاناتهم الطويلة مع المسألة الطائفيّة والشرخ العميق الذي تحدثه.

صحيفة نداء الوطن
سوريا والشرخ الطائفي العميق _بشار حيدر