سلاح المقاومة ليس للمساومة _


هديل رشاد

تخيّل، عزيزي القارئ، أن عدوًا يقتحم منزلك، بعد أن منع عنك الطعام والدواء، ليساومك بهما مقابل أن تتنازل عن بيتك وتسمح له باستباحة عرضك. ما الذي ستفكر فيه حينها؟ هل ستخاطبه بمنطق العقل؟ أم أنك، بفطرتك، ستدافع عن بيتك وكرامتك بكل ما أوتيت من قوة؟ ستواجهه ولو بيدٍ خالية، وستقاومه ولو أدى ذلك إلى موتك، لأن الدفاع في تلك اللحظة لا يكون خيارًا، بل واجب فطري، وفعل كرامة لا يقبل المساومة.

أطلب منك الآن أن تُسقِط ما انتابك من مشاعر في هذا السيناريو الشخصي على واقع الإنسان الفلسطيني المقاوم، حين يُطلب منه أن يُسلِّم سلاحه، وهو يعلم أن المحتل يتربص اللحظة لاستكمال مخططه الصهيوني في احتلال فلسطين كلها، كما يعلم المقاوم أن نزع سلاحه ليس إلا تمهيداً لبطش أكبر، وإذلالا بلا سقف، فهو يراه إهانة مستترة خلف عباءة الحلول السياسية.

ليس من السهل طرح مسألة نزع سلاح المقاومة دون أن يصطدم هذا الطرح بجدار الحقيقة الواضحة: أن السلاح في يد الشعوب الواقعة تحت الاحتلال ليس خياراً، بل ضرورة وجود، والمفارقة أن الحديث عن نزع السلاح يأتي دوماً من الطرف الأقوى، أو من وكلائه، وكأنهم يريدون أن تنكفئ الضحية عن الدفاع عن نفسها، ليصفو الجو للجلاد.

في الحالة الفلسطينية، السلاح ليس عبثاً ولا ترفاً ولا تعطشا للدماء، بل هو رد فعل على الاحتلال الإسرائيلي المستمر منذ أكثر من سبعة عقود، وما من مقاومة في التاريخ وُجدت من فراغ، بل كانت دوماً استجابة لعدوان، فالاحتلال هو الفعل، والمقاومة هي رد الفعل، ومن العبث أن يُطالب العالم الضحية بوقف رد الفعل بينما يُبقي على الفعل نفسه قائماً بلا مساءلة، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المنطق العميق حين قال جلَّ وعلا «وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً» (النساء: 102)، إنها الغفلة عن أدوات الدفاع التي يتربص لها العدو لينقضّ لحظة الضعف.

والتاريخ مليء بالشواهد التي تؤكد أن نزع سلاح الشعوب لا يجلب السلام، بل يفتح الباب لمزيد من القهر، ماذا كان مصير البوسنيين قبل مجازر سريبرينيتسا؟ ألم تكن السكاكين تلاحقهم بعدما مُنعوا من حيازة السلاح؟ في رواندا، سلّم المدنيون أسلحتهم في إطار تهدئة دولية، ولم يمضِ وقت طويل حتى وقعت المذبحة التي راح ضحيتها أكثر من 800 ألف شخص، وفي كل هذه الحالات، لم يكن السلاح هو سبب العنف، بل غيابه.

حتى في التاريخ الإسلامي، لم يكن السلام مرتبطًا بالضعف، بل بالندية، وعندما خيّر النبي محمد صلى الله عليه وسلم أهل المدينة بين الحرب والسلم، لم يكن ذلك من موقع عجز، بل بعد أن نظّم صفوفه وأعدّ العدّة. يقول الله تعالى: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ» (الأنفال: 60)، وهي ليست دعوة للعدوان بل تحصين ضد العدوان، تماماً كما هو حال الشعب الفلسطيني اليوم، لا يطلب الفلسطينيون الحرب، لكنهم يدافعون عن حقهم في البقاء، والسلاح في أيديهم لا يعني رفضهم للسلام، بل رفضهم للاستسلام الذي يريده لهم العدو والقطعان من أتباعه.

فسلاح المقاومة في غزة لم يكن يوما رمزيا أو مجرد شعار، بل أداة فعل مؤثرة كبّدت الاحتلال خسائر فادحة في الأرواح والاقتصاد، ووفقاً للمعطيات المعلنة من الجيش الإسرائيلي في الثاني من يناير للعام الجاري، وصل عدد الجنود القتلى منذ بداية الحرب إلى 891 جندياً، كما تشير المعطيات ذاتها إلى إصابة 5.569 جندياً منذ بداية الحرب وحتى الثامن من فبراير للعام الجاري، وما زال 73 محتجزاً إسرائيلياً في قطاع غزة، بينهم 35 أعلن الجيش الإسرائيلي عن وفاتهم، وعلى المستوى الاقتصادي، فقد سجلت البورصة الإسرائيلية خسائر بمليارات الدولارات، وتوقفت عشرات المصانع والشركات، وهربت الاستثمارات، وأُعلن عن شلل في الموانئ، والمطارات، وخطوط الشحن، بل وتم تعليق الدراسة في أغلب المؤسسات التعليمية لأسابيع. هذه الضربات ليست دعاية، بل حقائق رقمية تؤكد أن السلاح المقاوم ليس عبئًا، بل ورقة ضغط حقيقية، ولهذا السبب تحديدًا يسعى الاحتلال وأعوانه لنزعه.

ختاما...
ثمة شعوب كثيرة في التاريخ خضعت باسم «التسويات»، وألقت سلاحها طمعًا في حياة آمنة، فما نالت إلا الذل، من لا يقرأ التاريخ يعيد أخطاءه، ولهذا، فإن الدعوة لنزع سلاح المقاومة في فلسطين قبل زوال الاحتلال هي دعوة للاستسلام لا للسلام، ولقبول دائم بالعدوان لا لوقفه، هي دعوة ظاهرها التهدئة، وباطنها نزع آخر أوراق القوة من يد شعب لا يملك غير الإرادة والسلاح.

صحيفة الشرق القطرية
سلاح المقاومة ليس للمساومة _هديل رشاد