زيارة البابا إلى الشرق الأوسط والعلاقات الكاثوليكية ـــ الإسلامية _


البروفيسور د. أحمد أويصال

في مايو 2025، قام البابا ليو الرابع عشر، بعد تولّيه قيادة الفاتيكان ورئاسة العالم الكاثوليكي، بأول زيارة خارجية له إلى الشرق الأوسط. وقد كانت تركيا محطته الأولى، تلتها لبنان. وتكتسب هذه الزيارة أهمية خاصة في ضوء التطورات التاريخية والراهنة، كما تحمل أهدافًا ورسائل متعددة. فمن خلال هذه الزيارة، يسعى البابا إلى توجيه رسالة إلى العالم الإسلامي من جهة، وإلى مخاطبة العالم الأرثوذكسي من جهة أخرى، في محاولة لإحياء مشروع قديم يهدف إلى توحيد المسيحية بين روما الشرقية وروما الغربية.

بعد انقسام روما إلى قسمين سنة 395م، انقسمت كنائس الجانبين أيضاً. فقد اعتنق الروم الشرقيون المذهب الأرثوذكسي، بينما بقيت روما الغربية على المذهب الكاثوليكي. وعلى الرغم من استمرار محاولات توحيد الكنيستين لفترة طويلة، فقد انفصلتا بشكل نهائي سنة 1054م. ومع توسّع الإسلام السريع بعد ظهوره، تفاعل في بداياته مع الكنائس الأرثوذكسية وجماعاتها في فلسطين وسوريا ومصر، ثم امتد لاحقاً إلى شمال إفريقيا والأندلس حيث المناطق ذات الأغلبية الكاثوليكية، ودخل في تفاعل مع العالم الكاثوليكي.

شهد العالم الكاثوليكي الخاضع لسلطة البابا تفاعلات ثقافية واجتماعية كبيرة مع الأندلس. كما أنّ الحملات الصليبية التي انطلقت بتوجيه من البابا نحو بلاد الشام والأناضول الخاضعتين للحكم الإسلامي، تسببت في دمار واسع، لكنها في الوقت نفسه أسهمت في زيادة بعض أشكال التواصل الاقتصادي والثقافي بين الجانبين. ورغم تمكّن الدولتين السلجوقية ثم العثمانية من وقف هذه الحملات ومنع استقرارها في المنطقة، فإنّ اهتمام العالم الكاثوليكي بتلك الأراضي لم يتوقف. وبعد سقوط الأندلس عام 1492، سعى التوسع الكاثوليكي ـ خصوصًا من قبل إسبانيا والبرتغال ـ إلى بسط نفوذه على شمال إفريقيا، بل وعلى شبه الجزيرة العربية. غير أن هذه المحاولات أُحبطت بفضل وحدة العالم الإسلامي تحت الدولة العثمانية.

سعيًا لموازنة التوسع الإسباني والبرتغالي، عملت الدولة العثمانية على تعزيز علاقاتها مع فرنسا الكاثوليكية، في حين واصلت البابوية في روما دعم المجتمعات الكاثوليكية في الشرق، مع محاولات حثيثة لاستمالة الأرثوذكس الخاضعين للحكم العثماني وتحويلهم إلى المذهب الكاثوليكي. وخلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، تكثفت الجهود الرامية لربط الأرثوذكس من اليونانيين والأرمن والأقباط والكلدان والسريان والسلافيين بالفاتيكان داخل الأراضي العثمانية. كما سعى المبشّرون الكاثوليك، ولا سيما اليسوعيون، إلى تنصير المسلمين دون تحقيق نتائج تُذكر، في الوقت الذي نجحوا فيه في التوسع بين الجماعات الأرثوذكسية من خلال المدارس والمستشفيات التي أسّسوها. ومع تزايد أعداد الكاثوليك، ظهرت في الشرق الأوسط خلال هذه الحقبة عدة كنائس وبطركيات كاثوليكية جديدة.

على الرغم من الإرث الصليبي، شهد موقف الكنيسة الكاثوليكية تجاه المسلمين في القرنين العشرين والحادي والعشرين تحولًا ملحوظًا. فقد اتخذ المجمع الفاتيكاني الثاني (1962–1965) قرارًا مهمًا يقضي بالابتعاد عن دور الأداة في خدمة الاستعمار الغربي، والاقتراب أكثر من الشعوب المظلومة. كما أقرّ المجمع بأنّ المسلمين يؤمنون بإله واحد، ودعا إلى تعزيز الحوار الكاثوليكي–الإسلامي وكسر الأحكام المسبقة بين الجانبين. وقد أولى المجلس البابوي للحوار بين الأديان، الذي تأسس عام 1964، أهمية خاصة للحوار مع العالم الإسلامي. ويُذكر أن البابا يوحنا بولس الثاني كان أول بابا يزور مسجدًا (دمشق، 2001). وفي عام 2006، أدى ربط البابا بنديكتوس السادس عشر بين الإسلام والعنف إلى أزمة في العلاقات، وللمساهمة في تجاوزها تأسس منتدى المسلمين والكاثوليك عام 2008.

اتّسمت سياسة البابا فرنسيس بإصرار أكبر على تطوير علاقات إيجابية مع العالم الإسلامي؛ إذ زار العديد من الدول الإسلامية، ووقّع في عام 2019 مع شيخ الأزهر وثيقة «الأخوّة الإنسانية». وقدّم دعمًا للقضية الفلسطينية، ولو بلغة دبلوماسية، إذ اعترف الفاتيكان بدولة فلسطين عام 2015، كما عارض إعلان القدس بصورة أحادية "عاصمة لإسرائيل”. وشدّد كذلك على خطأ حصار غزة، وعدم شرعية المستوطنات، ورفض الاعتداءات على المدنيين.

أما البابا ليو الذي بدأ مهامه هذا العام، فقد اختار أن تكون أولى زياراته إلى تركيا ولبنان، في إشارة واضحة إلى عزمه مواصلة تعزيز العلاقات مع العالم الإسلامي. وفي مرحلة يتصاعد فيها العداء للمسلمين من الهند إلى الولايات المتحدة، فإن استمرار الحوار بين العالم الإسلامي والعالم الكاثوليكي، الذي يشكل نصف المسيحية تقريبًا، يبدو ذا أهمية وفائدة كبيرتين.

صحيفة الشرق القطرية
زيارة البابا إلى الشرق الأوسط والعلاقات الكاثوليكية ـــ الإسلامية _البروفيسور د. أحمد أويصال