أسامة أبو ارشيد
منذ انطلقت الثورة السورية ضدّ نظام الرئيس المخلوع بشّار الأسد (2011)، ثمَّة من يصرّ في الجانبَين السوري والفلسطيني على أن يضع طموحات الشعبين وآمالهما في الحرية والانعتاق والكرامة في سياقَين متناقضَين. بل ثمَّة من يذهب إلى أبعد من ذلك عبر التلميح أو التصريح بأن ثمَّة حالة من التنافي والتضادّ بين المشروعَين الوطنيَين، السوري والفلسطيني، على خلفية الموقف من إيران ووكلائها في المنطقة، وتحديداً حزب الله اللبناني، من ناحية، وإسرائيل من ناحية أخرى. ففي حين يرى كثيرون من السوريين (محقّين) أن محور إيران في المنطقة خصم لهم وشريك في جرائم نظام الأسد ضدّهم، جادل بعض الفلسطينيين بأن هذا المحور، بل حتى نظام الأسد، حلفاء لقوى المقاومة الفلسطينية. طبعاً، لا يمكن موضوعياً إنكار الدور الإيراني وبعض وكلاء طهران في دعم المقاومة الفلسطينية تاريخياً، وتحديداً في إسناد قطاع غزّة في مواجهة حرب الإبادة الإسرائيلية الراهنة، كما فعل حزب الله (حتى سبتمبر/ أيلول 2023) قبل أن يخرج من المعركة جرّاء الضربات الإسرائيلية القاسية التي تلقاها، والدور الحوثي المستمر. كما لا يمكن موضوعياً إنكار دور المحور الإيراني في الجرائم المرتكبة بحقّ الشعب السوري. المشكلة أن ثمَّة من لا يريد أن يُقرّ بأن إسرائيل هي العدو الاستراتيجي لأمّة العرب، بمن فيهم سورية، كما أن المشكلة أن كلا الطرفَين، المحسوبَين على السوريين والفلسطينيين (وهم وإن علت أصواتهم وغلب ضررهم ليسوا أغلبيةً)، لا يعترفان بتعقيدات المشهدَين وتشابكهما، كما أنهما لا يقبلان بنسبية مقاربتيهما وتقاطع المناطق الرمادية بينهما. وهكذا يستمرّ الاشتباك ومحاولات تسجيل النقاط الرخيصة في مرمى الطرفَين المتشاكسَين.
حتى هروب الأسد خارج سورية، أواخر العام الماضي (2024)، لم يزدد المشهد إلا قتامة بين من يصرّون على التأزيم في الجانبين السوري والفلسطيني، خصوصاً عندما أقدمت إسرائيل متذّرعة بسقوط النظام على التوغّل في الأراضي السورية وتدمير قدرات البلاد العسكرية، والعبث في النسيج الوطني السوري. كان ردُّ فعل النظام السوري الجديد (ولا يزال) سلبياً أمام الانتهاكات الإسرائيلية، في حين برزت أصوات سورية لا تكتفي بالقول إن سورية، المنهكة منذ 13 سنة من الحرب والتقويض الممنهج الذي أحدثه حكم آل الأسد 55 سنة، غير جاهزة (ولا قادرة) الآن على التصدّي لإسرائيل. بل إن بعض تلك الأصوات تطرّف في القول إن العداء مع إسرائيل ليس أولويةً سوريةً. واستغلّ بعض الفلسطينيين هذا المنطق ليدين مرحلة الرئيس أحمد الشرع زاعماً أن فيه تأكيداً لما كان يقوله من أن نظام الأسد كان ممانعاً، وأن إسرائيل كانت طرفاً في دعم الثورة ضدّه.
وما لبث أن تعزّزت أصوات هؤلاء عندما التقى الرئيس الأميركي دونالد ترامب الشرع (14 مايو/ أيار الجاري) في الرياض، وأعلن رفع العقوبات عن دمشق. ثمَّ جاء كشف إسرائيل (18 مايو الجاري) استعادة مجموعة من الوثائق والصور والمتعلّقات الشخصية المرتبطة بالجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين، الذي أعدم في سورية عام 1965، من خلال تعاون بين الموساد وجهاز مخابرات أجنبي لم تحدّده. ولم يزد تقرير "رويترز" (20 مايو الجاري) الوضع إلا سوءاً، إذ نسبَ إلى ثلاثة مصادر، منها اثنان سوريان (كما زعم)، أن أرشيف كوهين قُدّم لإسرائيل من الحكومة السورية، في مبادرة غير مباشرة من الشرع لتهدئة التوتّر وبناء الثقة مع ترامب. وكان نظامَا الأسد، الأب (حافظ) والابن (بشّار)، قد حافظا على تلك الوثائق عقوداً طويلةً ورفضا تسلميها لإسرائيل. أمّا ثالثة الأثافي، فكانت في تصريح السفير الأميركي السابق في سورية روبرت فورد الذي قال إنه التقى الشرع عام 2023 بتنسيق من "مؤسّسة بريطانية غير حكومية، متخصّصة في حلّ الصراعات، من أجل مساعدتهم في إخراج هذا الشاب (أحمد الشرع) من عالم الإرهاب وإدخاله عالم السياسة التقليدية". وأضاف فورد: "عندما التقيته للمرّة الأولى حين كان اسمه الحركي الجولاني، جلست بجانبه، وقلت له باللغة العربية: خلال مليون سنة لم أكن أتخيّل أنني سأكون جالساً بجانبك. ونظر إلي وتحدّث بنبرة ناعمة قائلاً: ولا أنا".
المعطيات السابقة حسّاسة جدّاً وخطيرة، وهي لا شكّ تستوجب حذراً سورياً من المسار الذي تُجرّ إليه القيادة الجديدة، ولا ينبغي أبداً أن يهوّن بعضهم الأمر، خصوصاً مع مطالبة ترامب الشرع بالتطبيع مع إسرائيل. هي عملية ابتزاز مكتملة الأركان؛ عقوبات أميركية وغربية مُذخّرة بغرض الابتزاز والإخضاع في ظلّ وضع اقتصادي منهار ودمار هائل في البلاد؛ اعتداءات إسرائيلية سافرة ونصائح من بعض الأطراف العربية للقيادة الجديدة بالسير في ركاب المطبّعين ومحور الثورات المضادّة؛ فتنة طائفية داخلية تعبث فيها أصابع خارجية وفوضى تحدثها، وجرائم يقترفها أنصار النظام السابق؛ أخطاء يرتكبها الحكم الجديد. إلا أن المبالغة في التحريض على سورية الجديدة وافتراض سوء النيات والميل إلى تصديق فورد، وتكذيب التوضيح السوري الذي أكّد أن زيارة فورد إلى إدلب "كانت كما غيرها من زيارات الوفود الأجنبية جزءاً من الاطلاع المباشر على التجربة الثورية السورية وتطوّرها في المناطق المحرّرة، ومحاولة فهم واقعها ومراحلها"، لا يفيد فلسطين قطعاً. هذا لا يعني أن نكون ساذجين، لكن موضعة سورية الجديدة في خانة خصوم القضية الفلسطينية عربياً، من دون إعطاء فرصةً لها، قد تترتب عنها تداعيات كارثية. يتطلّب الأمر توثقاً أولاً، خصوصاً أن الشعب السوري، وليس نظامه الجديد فقط، يطالب بفرصة لالتقاط الأنفاس. ومن ثمّ، ليس من المصلحة أن نجعل الأمر مزايدةً على أيّ الشعبين أكثر ألماً ونزفاً، الفلسطيني أم السوري. في المقابل، على سورية الجديدة أن تدرك أن إسرائيل هي عدوها الأوّل، كانت وما زالت وستبقى. وتبنّي مقاربة أمنية وطنية سورية تحدّد إسرائيل تهديداً أعلى لها هي حماية لسورية وليست وفاءً لفلسطين فحسب.
جدل الأولويات الفلسطينية السورية ما هو إلا تعبير واحد عن عمق أزمتنا أمّةً عربيةً، إذ إن غياب المقاربة القومية الجمعية يجعلنا جميعاً قابلين للابتزاز، ولضرب بعضنا ببعض. وحتى تكون هناك مقاربة قومية جمعية عربية، وهو أمر غير متصوّر في المدى المنظور، فليس أقلّ من أن نسعى إلى تقليل التناقضات الشعبية البينية، خصوصاً عندما يكون طرفا المعادلة كلاهما ضحايا ومكشوفين وقابلين للابتزاز. لكن، إن ثبت أن طرفاً ما يسير في الطريق الخاطئ قاصداً (متعمّداً) خدمة أهداف مناقضة لمصالحنا أمّةً وشعوباً، حينها يكون لكلّ حادث حديث. حتى ذلك الحين، سننتقد ونحذّر وننصح، لكنّنا لا نصدر أحكاماً راهناً ونتلمّس الأعذار، من دون أن نقع في وحل السذاجة.
كلمة أخيرة، عار على كلّ من ينفخ في كير فتنة فلسطينية سورية. وعار على كلّ من لا يتفهّم إكراهات الطرف الآخر، وعار على كلّ من يبرّر لإسرائيل وجرائمها ولا يقف مع إخوانه المظلومين في فلسطين. إسرائيل عدونا الجمعي. أحمق وسفيه وخائن من لا يرى ذلك ويعتقده يقيناً.
العربي الجديد