خالد الحروب
عرف العالم قادةً حمقى، وقادة مجانين، وقادة مراهقين، وقادة مستبدّين، وقادة كذّابين، وقادة مهووسين بجنون العظمة، وقادة أغبياء، وقادة مجرمين، وقادة فاسدين، وقادة مرتشين، وقادة آخرين تقودُهم صفاتٌ رذيلةٌ أخرى. وغالباً ما يصعد هؤلاء في بلدانٍ لا تحكمها أنظمة سياسية تقوم على المشاركة والحرية والانتخاب. اليوم أرعن البيت الأبيض يتحدّى ما عرفه العالم كلّه، من تجارب مع تلك الأصناف من القادة، فهو يتفاخر (مُحقّاً هنا) بأنه انتُخِب من الشعب، لكن في الوقت نفسه رذائل القادة المشار إلى صفاتهم في شخصه المُبجّل، وفي مقدّمها الغدر والخداع. كان يفاوض الإيرانيين في مسقط في يونيو/ حزيران الماضي، ويعلن أن واشنطن وطهران على وشك الوصول إلى اتفاق حول الملف النووي الإيراني، في حين كان يتآمر مع نتنياهو لضرب إيران عسكرياً. مع "حماس"، والفلسطينيين، ظلّ يقدّم كلاماً ومبادراتٍ في الهواء لإنهاء الحرب، خدع "حماس" في إحداها، وأقنعها بإطلاق الأسير الأميركي – الإسرائيلي عيدان ألكسندر في مايو/ أيار الماضي (2025)، مقابل وعود كاذبة بخطّة لإنهاء الحرب. نحن والعالم أمام حالة استثنائية من البلطجة والغدر المُعولم ترأسان قمّة الهرمَين السياسي والعسكري في الدولة العظمى الأكثر أهمية. بيد أن ما ساهم في تمدّد البلطجة الترامبية يتمثّل في الخنوع والخضوع والنفاق المُذهل الذي يتسابق قادة العالم في تقديمه له، خوفاً من رعونته وغدره، وتفادياً لجنونه غير المتوقّع. نفاق هؤلاء القادة لترامب، مع استثناءات قليلة هنا وهناك، خاصّة في أميركا الجنوبية، يُغذّي غروره، ويقنعه بأنه مبعوث العناية الإلهية للكوكب برمّته.
يتمثّل أحد أهم تمظهرات البلطجة الترامبية في التعامل مع الدول في الاستفراد بالرؤساء والحكّام، وبوضعهم تحت الضغط المتواصل ومحاصرتهم بالتهديدات المباشرة والمستبطنة. وبالتالي، انتزاع تنازلاتٍ منهم. توضّح ذلك في أمثلة كثيرة خلال الأشهر الماضية في تعامله مع القضايا الدولية، وفي حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزّة، والمدعومة منه ومن إدارته اللذيْن يحاولان تفادي أيّ مواجهة جماعية تعكس موقفاً موحّداً. وفي حال اضطرّ للتعامل مع مجموعة من الدول على نحو جمعي، سرعان ما يحاول الالتفاف على الموقف الموحّد ويتواصل مع الدول المعنية فردياً من وراء ظهر بعضها بعضاً لتفكيك المواقف وبعثرة التوافقات. هذا غالباً ما حدث (وما زال) عقب الخديعة الجديدة، "خطّة ترامب"، التي أعلنها بهدف إطلاق الأسرى الإسرائيليين، ومن ثمّ إيقاف الحرب في غزّة. تبعاً للخطة، على "حماس" أن تطلق الأسرى خلال 72 ساعة، ثمّ تنتظر رحمة ترامب ونتنياهو لإيقاف الحرب والمقتلة. هل ثمّة عاقلٌ على وجه الكوكب يمكن أن يثق بهذه الخطّة العبقرية؟
في صوغ هذه "الخطّة" وتسويقها، تلاعب ترامب (ويتلاعب) بالجميع، مُوظِّفاً مهاراته المهنية السابقة كلّها، تاجر عقارات لئيم يدوس على القيم والناس، ويغدر القريب والبعيد، لتحقيق هدفه في تعظيم الربح إلى أقصى درجة. وأصبح معروفاً اليوم أن "خطّة ترامب" انشقت سريعاً إلى خطّتَين مختلفتَين، واحدة اتفق عليها مع الدول العربية والإسلامية، والثانية اتفق فيها مع بنيامين نتنياهو، وهي نصّاً وجوهراً خطّة هذا الأخير. صدرت عن بعض الدول العربية والإسلامية التي تعرّضت للخديعة تصريحات خجولة تقول إن تغييراً جذرياً وقع بين "الخطَّتَين"، ولكن يبدو أن ثمّة قناعة ما تراهن على زخمٍ، تأمل هذه الدول أن يتعاظم ويقود إلى إنهاء الحرب. بيد أن هذا الأمل تُحبطه عنجهية (وبلطجة) نتنياهو الذي يصرّ على تدمير قطاع غزّة و"حماس"، والمضي في مخطّط التهجير. يتحوّل ترامب الضبع الهائج هنا أرنباً يستمع لما يقوله نتنياهو، إن لم نقل ما يأمره به، ويغرقه في التفاصيل والجزئيات وسط التركيز في مدح عظمة ترامب، وفي التمسيد على ذاته المغرورة وإعلاء دوره وإنجازاته أمام الإعلام. لنا أن نتوقّع أن نتنياهو وفريقه يتواصلون يومياً مع ترامب وفريقه.
إزاء وضعٍ كهذا، ما الذي يمكن أن تقوم به "حماس" والفلسطينيون أمام هذا الثور الهائج، الذي كلّما ركض في أيّ اتجاه حطّم ودمّر؟... بيان "حماس" الأولي بقبول "خطّة ترامب" كان خطوةً ذكيةً امتصّت قدراً من الهيجان الترامبي، وبدا من ردّة الفعل الأولى وكأنّ ترامب أقنع نفسه بأنه أوقف الحرب. لكن الفورة السريعة سرعان ما خمدت، وعدنا إلى السيرة الاعتيادية، إذ يتلاعب نتنياهو بترامب كيف يشاء، وتبعاً للأجندة السياسية للأول، تحوّل طلبه من نتنياهو بإيقاف الحرب فوراً إلى "إشادة بالرغبة في الوقف المؤقّت للعمليات العسكرية". ليس أمام "حماس" إلا الاحتماء بالنسخة الأولى من خطّة ترامب والتمسّك بها، وتفويض الأطراف العربية والإسلامية الوسيطة بإنجاز ما اتفقت عليه مع ترامب. ليس لأن هذا يحقّق الحدّ الأدنى ممّا هو مطلوبٌ فلسطينياً وحماسياً فقط، بل أيضاً لأن خطّة ترامب بصيغتها الإسرائيلية تهدّد العرب أنفسهم، إذ تعيد فلسطين إلى عهود الوصاية الاستعمارية المباشرة.
سياسياً وإعلامياً ودبلوماسياً، مطلوب التركيز في هذه الفترة العصيبة في الفكرة التي أشارت إليها البيانات الرسمية العربية والإسلامية عن التغيير الخادع في بنود الخطّة المتّفق عليها. ومطلوبٌ رسمياً من هذه الدول أن تتواصل يومياً مع ترامب وإدارته كما يتواصل معه نتنياهو لمحاولة موازنة الضغط والتأثير. ولا تقل أهمية هنا ضرورة أن يبقى الموقف العربي والإسلامي موحّداً، وألا يُفكّك كما هي العادة الترامبية. ومن هذه الزاوية تنبع أهمية البيان المشترك، برغم تواضعه، الذي صدر باسم ثماني دول عربية وإسلامية (قطر، الأردن، إندونيسيا، باكستان، تركيا، السعودية، ومصر)، في الخامس من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، ورحّب بموافقة "حماس" على "الخطّة"، لكنّه أعاد تأكيد النقاط الرئيسة في الخطّة الأصلية. إذا حافظ هذا الموقف العربي – الإسلامي على الحد الأدنى من التماسك، وظلّت "حماس" تحتمي به وتفوّضه، قد يُغلق هذا الطريق على مخطّطات نتنياهو الإبادية والتهجيرية، ويؤدّي إلى وقف الحرب.
منذ تولّيه الرئاسة في فترته الثانية، يقدّم ترامب حالةً دراسية بالغة الإثارة، والانحطاط طبعاً، في مجال القيادة السياسية. أحد جوانبها منسوخ من سيرة القادة المستبدّين ذوي الرطانة العالية في التهديد والوعيد، لكن الجبن والتردّد والتراجع عند مواجهة ما قد يترتّب على التهديد والوعيد. ترامب هدّد الصين وكندا والدنمارك والمكسيك وبنما وغيرها، وهدّد كل الدول بفرض تعرفات جمركية مجحفة بحقّها. لكن معظم تلك التهديدات ذهبت أدراج الرياح عندما وقف كثيرون من قادة العالم بصلابة في وجهها، فبلع تهديداته وانخرس. ليس هذا تقليلاً من شأن (ومستوى) المخاطر التي تواجه غزّة وفلسطين والمنطقة من ترامب وسياسته، ولا سيّما أن الحالة هنا استثنائية، وفي خلفيتها لوبيات صهيونية ويمين مسيحي صهيوني، وكونغرس يبحث في شؤون إسرائيل أكثر ممّا يبحث في شؤون أميركا. لكن النقطة المهمّة التي تبقى قائمةً أن ترامب ليس قدراً ولا مناص منه، ويمكن صدّه وتقليم جموحه قيد الإمكان، عبر مواقف جماعية موحّدة ومتماسكة.
العربي الجديد