طارق الهاشمي
"الانتصار مهم … لكن الأهم المحافظة عليه" ولا سبيل لتحقيق ذلك إلا بـ "النجاح" ولا نجاح دون تحول مؤسسي منهجي، حثيث، من ثقافة "الثورة" إلى إطار "الدولة"… وقد تحقق ذلك على الصعيد المؤسسي، وحديثي اليوم عن تشكيل حكومة سورية جديدة بعد أربعة أشهر فقط من يوم "الفتح" في 8 كانون أول / ديسمبر 2024.
تشكلت الحكومة في ظل تحديات هائلة، بعضها تركة ثقيلة للغاية من تراكمات دولة قمعية فاشلة، والأخرى ردات فعل أطراف خارجية انتهازية مارقة تحسست من التغيير الحاصل، وبعضها يعنى بالخبرة والتجربة، وبعضها يعنى بالجانب النفسي ووعي المواطن …. وأخرى تعنى بالموقف الدولي… كل ذلك في ظل أوضاع معيشية خانقة، تحديات متنوعة تضع الحكومة الوليدة أمام امتحان عسير! حيث تتجه الأنظار إلى الفريق الوزاري ومدى قدرته على مواجهة تلك التحديات، ونظام الحكم ناشئ وهو بحاجة إلى سنوات من الخبرة في مختلف مجالات الحياة الاقتصادية والعمرانية والسياسية والاجتماعية وغيرها، فإن التساؤلات تُطرح حول مدى قدرة الحكومة على تحقيق أي تقدم فعلي.
لا شك أن النظام الجديد حريص جداً على تحقيق فارق ملموس وعلى جناح السرعة في الخدمات ومستوى المعيشة، وسوف يسعى جاهداً إلى عدم تضييع أية فرصة يمكن من خلالها استقطاب أية وسائل أو موارد متاحة لتحقيق هذا الغرض… أما المواطن على الجانب الآخر،، وبعد أن تمتع بالحرية واستعاد الكرامة لأول مرة بعد عقود من القمع والتمييز والنهب المنظم، ووضع ثقته بالنظام الجديد، فإنه يترقب اليوم التالي وقد أشرق على وضع جديد، لا تنقطع فيه الكهرباء، ولا يتوقف تدفق ماء الشرب، لقمة العيش كافية، وحبة الدواء متيسرة، وخدمات التعليم والصحة والبلديات متاحة، وهو لم يعد مضطراً للقلق على معيشته، صحته وأمنه، بل بات معنيا بالمشاركة في تحسين جودة الحياة، والانخراط في برامج العصرنة والتحديث…. آمال مشروعة، لكنها في حسابات الميدان يستحيل تحقيقها بين عشية وضحاها، ليس لقصور في الرؤى بل لسبب النقص الحاد في الإمكانيات، في الوسائل والأدوات…. دعونا نحلل التحديات ذات الصلة بهذا الحديث.
* اقتصاد مدمر وشح في الموارد:
• غلاء المعيشة وارتفاع معدلات التضخم.
• ضعف الإنتاج المحلي، وعدم سيطرة الحكومة على
عوائد النفط الخام.
• الاعتماد على الحلفاء الخارجيين في ظل
تراجع الدعم الدولي.
• ازدياد الاعتماد على الأسواق السوداء.
• انتشار الفساد الاقتصادي.
• أما ما يتعلق بالخدمات الأساسية:
• تفاقم أزمة الكهرباء والمياه والوقود.
• انهيار النظام الصحي ونقص الأدوية والمعدات الطبية.
• انهيار النظام التعليمي.
ولنا أن نتصور عظم التحدي الذي يواجه الحكومة الوليدة، وقد وجدت نفسها في بحر من الأزمات والمشاكل، ومطلوب منها أن تجد لها الحلول وتحدث الفارق في اليوم التالي!! وهي بذات الوقت تواجه رزمة من عقوبات اقتصادية قاسية ورثتها من النظام البائد!
بالطبع هذا غير ممكن، إن لم يكن مستحيلا.
لكني أقول إن الأزمات الحادة، عادة ما تصنع المعجزات، بالركون إلى وسائل مبتكرة وغير تقليدية، رؤية ثاقبة، إرادة صلبة، وقرارات صعبة، ونفس طويل، ومرونة عالية، يرافقها تفهم شعبي، لا ينتظر عصا موسى، ولا ملك سليمان، بل تدبير يوسف حيث نجح في الإفلات من سنوات القحط السبع، بحسن تدبيره، وجودة تخطيطه، ونظافة يده، بعد أن خزن حاصل سنوات الرخاء، واعتنى بالاستهلاك ورشّده، وعبر المرحلة، على قاعدة القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود.
من الضروري أن تصل الصورة الحقيقية المجردة إلى الناس بكل شفافية وبلا رتوش، المواطن ليس بحاجة إلى شعارات رنانّة ولا وعود وردية زائفة، وفي هذا الوقت بالذات، حيث الـظرف حرج والزمن محدود لا نوظفه للتثقيف بالأيدولوجيات، لن يقتنع به الفقير المعدم ولا المريض ولا الطفل المشرد ولا العاطل عن العمل ولا المرأة الثكلى… (باختصار اعتماد مقاربة المفكر مهاتير محمد).
* الواقع هو الذي يتكلم ومن غير الممكن حجب الشمس بغربال أمّا البديل؟ فالمصارحة ومشاركة الناس بالحقائق، في خطاب عقلاني لا مبالغة فيه ولا تهويل… إن إدراك المواطن لواقع الحال، وتفهمه لعظم التحديات، وتقديره للجهود المبذولة، من شأنه أن يعمق الصلة بالنظام، وهذا مطلوب لمسألتين، الأولى ترتبط بالوضع الأمني والحاجة الماسة إلى تعاون المواطن مع السلطة، والثانية بالمشاركة الطوعية مع الحكومة في تفكيك وحل الأزمات، وترميم وإعادة بناء الوطن لاحقاً.
ندرة الموارد والإمكانيات تفاقمها العقوبات الاقتصادية، وعلى الرغم من أنها فقدت جدواها ومبرراتها بتغيير النظام، إلا أن الأطراف الدولية ذات الصلة ما زالت تصر على ديمومتها وتوظفها كورقة ضغط وابتزاز، وتحاول أن تقايض رفعها بتنازلات ربما مؤلمة من جانب النظام الجديد، والمطلوب ممارسة الحكمة وإستراتيجية النفس الطويل، والبحث عن أساليب وطرق مبتكرة يمكن من خلالها التخفيف عن آثارها، ولدينا في هذا المجال تجارب دول عديدة استطاعت بذكائها وصبرها ومثابرتها الالتفاف على عقوبات مشابهة أو حتى أقسى منها، لكني هنا لا أعفي الدول الحليفة لسوريا الجديدة أن تساهم بقوة في رفع هذه العقوبات بأسرع وقت ممكن.
* لن تنجح الحكومة الجديدة، حتى تثبت لشعبها فعلاً أنها قادرة على المهمة، كما أنها تتمتع بسجل نزاهة نظيف، وهنا أوصي أن يشهر الرئيس وأعضاء الحكومة ذمتهم المالية أمام الشعب السوري، بحيث يجري تحديثها بإقرار سنوي، كما أوصي بإخضاع الأداء للرقابة والحوكمة، وقد تشكلت الحكومة في غياب مجلس نيابي منتخب، لهذا لابد من دعم تأسيس أجهزة فعّالة للرقابة، كالصحافة الحرة، منظمات مجتمع مدني، مراكز بحثية تعنى بالرأي العام، تجري استفتاء دوريا لقياس مدى رضا الناس وقناعتهم بإجراءات الحكومة، لكن المهم في تصوري هو تأسيس جهاز مستقل للرقابة يشكل من خارج الصندوق من حكماء ومفكرين وقامات متنوعة معروفة من المعارضة لم يشاركوا في الحكومة، لماذا لا يكون لهم موقع في الرقابة وممارسة الحوكمة باسم: (المنتدى الوطني السوري) …!!
* ملاحظات آمل الإفادة منها، والحكومة الجديدة كما أعتقد ستبقى بحاجة للاستماع إلى تجاربي وتجارب غيري من أصحاب الخبرة في مختلف التخصصات والشعب السوري زاخر في هذا المجال، والأمل أن تنهض الحكومة بمهماتها على الوجه الأمثل، متوكلة على الله، ولا تستمع لمقولة (اتسع الفتق على الراتق) كذريعة للعجز أو الفشل.
مرحلة صعبة، لكني على يقين بأن من صنع النصر يوم الثامن من كانون ثاني/ ديسمبر قادر على تطويره والمحافظة عليه.