سمير الزبن
خلال تاريخها في المنطقة، حاولت إسرائيل التغطية على جرائم الإبادة التي ارتكبتها بحقّ الفلسطينيين منذ مذابح العام 1948، والطرد الجماعي للفلسطينيين من بيوتهم وقراهم لبناء "دولة إسرائيل"، وصولاً إلى جريمة الإبادة وجرائم الحرب التي ترتكبها في قطاع غزّة في مدار أكثر من عام من حربها الوحشية على القطاع، بوصفها معارك "دفاع عن النفس"، وهي بالتالي ضحيّة لضحاياها.
قامت إسرائيل مشروعاً إلغائياً/ إبادياً بحقّ الفلسطينيين، اقتلع الفلسطينيين من أرضهم وألقاهم وراء الحدود، وأمل القادة الإسرائيليون أن ينسى الأبناء في المنافي بلادهم ومعاناة الآباء من الاقتلاع وتحويلهم لاجئين، ويبيدون أنفسهم وتاريخهم بأنفسهم، كما اشتهت رئيسة الوزراء الإسرائيلية السابقة غولدا مائير. وعندما قاوم الفلسطينيون الإبادة، لم يرَ الإسرائيليون أن من حقّ الفلسطينيين إعلان وجودهم من جديد في المنطقة، وأن لهم وطنا سُلب منهم، ويطالبون بالعودة إليه من الخيام التي طردوا إليها. تعاملت إسرائيل مع هذا الإعلان بوصفه تهديداً وجودياً، وتبيّن لقادة إسرائيل أن المشروع لم يكتمل بناؤه، لأن ضحاياه لا يريدون الاختفاء. هذا ما دفع المشروع نفسه إلى أن يستمرّ بطبيعته الأولى، الإبادية والإلغائية والاقتلاعية، بوصفها المكوّن الأساس لإسرائيل اللاحقة لاستكمال مشروع من المستحيل إكماله بمزيد من القتل الجماعي الإبادي، لتكرّر جرائمها المرّة بعد الأخرى بحقّ الفلسطينيين، التي لم تتقادم بفعل الزمن، لأنّها بقيت تعتمد السياسات ذاتها تجاه الفلسطينيين إلى اليوم، ما يجعلنا نقول إن الجريمة الصهيونية بحقّ الفلسطينيين هي جريمة مستمرّة بالمعنى التاريخي، والسياسي، والقانوني.
إسرائيل التي جاءت تجسيداً للمشروع الصهيوني، وليدة الجرائم بحقّ الفلسطينيين، لم تكتفِ بالأجزاء التي حصلت عليها في 1948 من فلسطين التاريخية، والتي تجاوزت ما منحها إياه مشروع التقسيم. واعتبرت ما تحقّق قاعدةَ انطلاق لتحقيق كامل المشروع الصهيوني. فكان احتلالها في حرب 1967 لما تبقّى من الأراضي الفلسطينية، وغيرها من الأراضي العربية في مصر وسورية. ومنذ ذلك الوقت، إسرائيل، وبكلّ الحكومات التي توالت على الحكم فيها، وبصرف النظر عن لونها السياسي، يمين أو يسار، سعت وتسعى لإكمال السيطرة على كامل فلسطين التاريخية بمزيد من قضم الأراضي الفلسطينية بمشاريع الاستيطان التي لا تنتهي. لذلك، ليس غريباً شعور إسرائيل بالرعب من كلّ حدث فلسطيني يتحدّاها، فهي أكثر من يعرف حجم الجرائم التي ارتكبتها بحقّ الفلسطينيين ومازالت. هذا التأسيس المشوّه والعدواني والإجرامي لدولة إسرائيل، جعل العدوانية والعنصرية جزءاً مكوّناً من مجتمعها الذي يقتصر على اليهود، ولا يرى حقّاً للآخرين بالمساواة، حتى لو كان وجودهم في البلد أسبق على وجود دولة إسرائيل ذاتها، كما هي حال الفلسطينيين المقيمين في الأراضي المحتلّة في 1948.
عملت إسرائيل على قلب معادلة الصراع، وجعلت من جرائمها بحقّ الفلسطينيين ردّاً على المخاطر التي تتوهّمها. ورفع خطر الفلسطيني إلى مستوى الخطر الوجودي، لا يقتصر على تبرير جرائمها فحسب، بل هو خوف الجلّاد من الضحيّة ومن جرائمه أيضاً. ويزيد خوف الجلّاد، عندما يدّعي أنه ضحية تاريخية ومطلقة.
إنه منطق القوة الذي يرى في الآخرين "وحوشاً بشرية"، ويجب بالتالي استخدام سياسة "جزّ العشب" للتخلّص من الأعشاب الضارة. إن مدخل الإبادة الجماعية هو نزع إنسانية البشر، وهذا ما تفعله اسرائيل تاريخياً مع الفلسطينيين، والذي أخذ مداه الأبعد في الحرب الوحشية التي تشنّها على قطاع غزّة منذ عام، وعلى لبنان منذ أكثر من شهر.
قال محامي أدولف آيخمان، الذي حُوكم في اسرائيل لعلاقته بجريمة الهولوكوست ونقل اليهود إلى معسكرات الإبادة ("الحداثة والهولوكوست"، زيغمونت باومان، تقديم عزمي بشارة، نقله إلى العربية حجاج أبو جبر ودينا رمضان، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2019) بالقول: «ارتكب آيخمان أفعالاً يُكرّم عليها المرء على أدائها إذا انتصر، وتنتصب له المشانق إذا انهزم». يعلّق باومان: "هذه بالتأكيد إحدى أقوى العبارات اللاذعة في القرن العشرين، لأنها لا تثير التفكير فحسب، بل هي تبعث رسالةً واضحةً وبسيطةً مفادها أن القوة تصنع الحقّ أيضاً". بيد أن هناك رسالة أخرى، وإن كانت ليست واضحة بالقدر نفسه، رغم أنها لا تقلّ سخريةً، بل إنها أكثر خطورة، وهي أن آيخمان لم يفعل شيئاً يختلف اختلافاً جوهرياً عما فعله المنتصرون. فالأفعال ليس لها قيمة جوهرية، كما أنها ليست غير أخلاقية في حدّ ذاتها. فالتقييم الأخلاقي خارج لعبة الفعل نفسه، وهو يتحدّد وفق معايير غير تلك التي تقود الفعل وتُشكّله.
لا تفعل اسرائيل في حربها على قطاع غزّة، سوى ما فعله الألمان باليهود في الهولوكوست، والادعاء بأنك ضحية الهولوكوست، لا يمنحك الحقّ بإبادة الآخرين بذريعة "الدفاع عن النفس"، وهذا الخطاب تحاول إسرائيل التغطية عليه بآلاف الأطنان من المتفجرات التي تلقيها على المدنيين في قطاع غزّة ولبنان. بالاستعانة بباومان من جديد، الذي كتب في هذا العالم الذي يتباهى بقدرته غير المسبوقة عن طريق إعادة تنظيم الواقع الإنساني وفق أسس عقلانية، تأتي العنصرية بأدلّة وبراهينَ تثبت أن جماعةً معيّنةً من البشر لا يمكن دمجها في النظام العقلاني مهما حاولنا ومهما بذلنا من جهد. وفي هذا العالم الذي يتميّز باختراقه المستمرّ لحدود التطويع الثقافي والتكنولوجي العلمي، تأتي العنصرية لتؤكّد أن عيوباً معيّنة لجماعة معيّنة من البشر ولا يمكن التخلّص منها أو تصحيحها، أيّ أن هذه الجماعة لا يمكن إصلاحها وستظلّ على حالها إلى الأبد. وفي هذا العالم الذي يؤكّد القدرة الهائلة للتدريب والتحول الثقافي، تأتي العنصرية لتفصل جماعة معيّنة بحجّة أن النقاش والجدل معها لا يجدي، وأنه لا أمل في إصلاحها كما ينبغي، عبر أدوات توجيهية وتثقيفية أخرى، ومن ثمّ لا بدّ أن تظلّ جماعة غريبة إلى الأبد. والنتيجة المنطقية تتلخّص في أن العنصرية ترتبط حتماً باستراتيجيات النفور والعداء، فإذا كانت الظروف مواتيةً، تستوجب العنصرية طرد الجماعة المكروهة من أرض الدولة. وإذا لم تسمح الظروف بذلك، تتطلّب العنصرية التصفية الجسدية للجماعة المكروهة. فالطرد والتدمير وجهان لعملة واحدة هي الإقصاء.
لا نضيف المزيد، كأنّ باومان كتب كلماته البليغة في تحليل الإبادة الجماعية التي تقوم بها إسرائيل في قطاع غزّة.