صلاح سلام
اتخذت الحكومة اللبنانية في جلستها الأخيرة خطوة ثانية إلى الأمام على طريق تثبيت مبدأ حصرية السلاح بيد الدولة، عبر الإطلاع على خطة الجيش اللبناني التنفيذية بما حملته من تفاصيل دقيقة وطروحات عملية كما عرضها قائد الجيش العماد رودولف هيكل، في إطار الحرص على الإستقرار والسلم الأهلي .
هذه الخطة لم تقتصر أهميتها على كونها ورقة عسكرية، بل شكّلت محطة سياسية بالغة الدلالة بعدما لاقت ترحيباً واضحاً من مجلس الوزراء ومن «الثنائي الشيعي» معاً، من خلال المواقف التي صدرت عن الرئيس نبيه برّي وحزب الله، كما حظيت بمباركة المرجعيات الروحية، وبقبول من الأطراف السياسية الأخرى.
هذا المناخ الجديد ساعد على تهدئة الأجواء الداخلية، وأوقف اندفاعة التوتر نحو مواجهة مفتوحة. إذ بدلاً من لغة التحدي والقطيعة، ظهر استعداد مبدئي لدى مختلف الأطراف للنقاش تحت سقف المؤسسات، والحرص على تطويق الإنقسام على مستوى القرار الرسمي، وهو ما أعاد الملف إلى طبيعته الوطنية، دون تسجيل أي خطوة إلى الوراء. ولا شك أن دخول الجيش إلى الواجهة كمحور التنفيذ أعطى جرعة ثقة إضافية للبنانيين، الذين سئموا من الشعارات العامة ويريدون رؤية خطوات ملموسة تعيد للدولة هيبتها.
لكن، في المقابل، ما زال الموقف الإسرائيلي على حاله من التجاهل المتعمَّد وكأن لا شيء يحدث في بيروت. فـتل أبيب تواصل الخروق البرية والبحرية والجوية، وتتصرف وكأن قرار مجلس الوزراء اللبناني مجرّد استعراض داخلي. هذا السلوك لا يعبّر فقط عن نوايا إسرائيل في إفشال أي محاولة لبنانية لبناء دولة قوية، بل يفضح المخططات العدوانية المبيتة ضد لبنان.
الأخطر أن الولايات المتحدة، التي يُفترض أن تلعب دور «الضامن» وفق خطة الوسيط توم باراك، لم ترفع إصبعاً للضغط على حكومة نتنياهو. واشنطن اكتفت ببيانات مائعة، تاركة المبادرة في مهب الرياح. هذا التخاذل الأميركي ليس بريئاً: فإما هو تواطؤ مكشوف مع التعنت الإسرائيلي، بحجة أن الخطوات اللبنانية غير كافية وتفتقد إلى جدية التنفيذ، أو هو قرار استراتيجي بترك لبنان يغرق في دوامة الانقسام، ليبقى ضعيفاً وعاجزاً عن فرض شروطه السيادية، وفي مقدمتها إتمام الإنسحابات الإسرائيلية من التلال الخمس الحدودية.
إن نجاح خطة حصرية السلاح في لبنان ليس مسؤولية لبنانية فحسب، بل يفرض على المجتمع الدولي التزامات واضحة، وفي مقدمها:
•إجبار إسرائيل على الكف عن خروقها اليومية والالتزام بتعهداتها في اتفاق وقف العمليات الحربية، وإلا فإن لبنان لن يكون مضطراً للإستمرار في إتخاذ خطوات آحادية الجانب.
•تحمّل واشنطن مسؤوليتها كاملة، وإظهار أنها قادرة على إلزام حليفتها الإسرائيلية بتنفيذ «ورقة باراك»، وإلا فإن صدقيتها كوسيط ستسقط نهائياً ، وتصبح بمثابة شريكة في الإعتداءات المستمرة ضد لبنان.
•الإسراع في إنجاز الترتيبات اللازمة لإنعقاد المؤتمر الدولي لدعم الجيش اللبناني ، وتوفير الإمكانيات اللوجستية المتطورة التي تساعده على تنفيذ المهمات الوطنية الكبيرة على المستوى المطلوب، ووفق البرنامج الذي سيعتمده. ولا بد من التأكيد في هذا المجال، أن إحتياجات الجيش اللبناني لا تتوقف على المعدات الحديدية مثل الآليات والمدرعات، بل تشمل على الأخص المعدات الألكترونية الحديثة التي تساعد على إكتشاف الأماكن المفخخة، مثل الروبوتات وأجهزة الإستشعار عن بُعد، ومسيَّرات مراقبة وتصوير، إلى آخر ما تتطلَّبه عمليات إكتشاف الأنفاق والدخول إليها، ونقل محتوياتها ضمن شروط السلامة الشخصية للوحدات العاملة في فوج الهندسة، الذي يعمل ضباطه وجنوده اليوم باللحم الحيّ، ولم يتوانوا عن التضحية بسلامتهم ودمائهم أثناء القيام بالواجب الوطني.
وإنعقاد المؤتمر الدولي لدعم الجيش يجب أن لا يؤخر العمل على إعادة فتح باب المساعدات من الأشقاء والأصدقاء لتمكين البلد من النهوض الإقتصادي والخروج من دوامة أزماته المالية والإجتماعية المستمرة منذ خمس سنوات، وبما يساعد أيضاً في إطلاق ورشة إعادة الإعمار لإزالة آثار الحرب الإسرائيلية المدمرة.
لقد برهنت الحكومة اللبنانية بخطوتها الأخيرة أنها جادة في مسار حصرية السلاح واستعادة سيادتها على كامل الأراضي اللبنانية. لكن إسرائيل لم تُبدِ أي نية في التجاوب، فيما واشنطن تتعمَّد إدارة ظهرها. وإذا لم يُكسر هذا الحائط الصلب، فإن كل جهد لبناني سيبقى مهدَّداً بالانهيار.
المطلوب أن يُقال بوضوح: لا يمكن للبنان أن يواصل تقديم الخطوات من طرف واحد، بينما إسرائيل تزداد شراسة، وأميركا تواصل سياسة الازدواجية. إن الكرة اليوم في ملعب واشنطن وتل أبيب، فإذا لم يتحملا مسؤولياتهما، فإنهما وحدهما من سيتحمل تبعات عدم الإستقرار في المنطقة.