حرب غزة وكسر الصنم _


د. فاتن الدوسري

عندما بدأت حرب الإبادة الصهيونية على قطاع غزة، بشر عدد لا يستهان به من المراقبين بنظام دولى جديد على أنقاض هذه الحرب، وأي متخصص أو دارس للعلوم السياسية يعرف أن ذلك مبالغة كبيرة، إذ إن الحرب الأوكرانية وهي أخطر وأكبر حرب تقليدية بعد الحرب العالمية الثانية، لم تؤد إلى تأسيس نظام دولي جديد. فالأخير ينشأ عادة على أنقاض حرب عالمية كبرى أو انتقال جذري للقيادة في النظام الدولي حتى بدون حرب كبرى كما حدث بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتأسيس نظام أحادي بقيادة واشنطن.

والواقع أن ما يجب قوله إن الحرب الأوكرانية كانت كاشفة لطور أو معالم هذا النظام الدولي الجديد غير محدد المعالم بدقة بعد لكن على الأرجح نظام دولي متعدد الأقطاب، والحرب في غزة قد عمقت هذا الانكشاف. إذ من خلال مجمل ما حدث في العالم بما في ذلك مواقف الدول المتعددة من الحرب وعلى الأخص تجاه إسرائيل، يتضح بجلاء عمق هذا الانكشاف.

تطل علينا حرب الإبادة على غزة بمفاجآت مذهلة يوما بعد يوم تحطم في أجزاء كبيرة من تابوه أو صنم الدعم والتعاطف العالمي الواسع لإسرائيل. وكانت البداية الموقف العالمي الشعبي من إسرائيل وبالأخص، وهي من المفارقات المحزنة في قلب العالم الغربي بما في ذلك الولايات المتحدة. فحرب الإبادة اشعلت انتفاضات مليونية في كل العواصم الأوروبية وكندا واستراليا كان آخرها مظاهرة مليونية في استراليا لإيقاف حرب التجويع، وتمرد طلابي لم يحدث منذ حرب فيتنام في الولايات المتحدة.

ودلالات ذلك متعددة شديدة العمق، ومنها الفكاك الشعبي من النيوليبرالية الأنانية المتطرفة بالتوازي مع تنامي التوجهات الأخرى اليسارية والإنسانية والخضر، ودلالة ذلك يكمن في ضعف الهيمنة الغربية بصورة عامة ونموذجها النيوليبرالي في العالم بصورة خاصة. وأيضا قوة وسطوة الإعلام في التأثير وهنا نذكر الدور الرائد لقناة الجزيرة الواسعة الانتشار في الغرب في نقل الحرب ومآسيها المخزية الكارثية منذ أول يوم لحظة بلحظة، ودلالة ذلك أيضا هو تعدد وانتشار القوة في العالم إذ لم تعد محصورة في القوة العسكرية والاقتصادية فقط، فالإعلام بحد ذاته قوة رهيبة، وهذا يعد إشارة بالغة على عالم متعدد الأقطاب والقوى في مرحلة الانطلاق أو الإعلان رسميا.

وعلى المستوى الرسمي، تسببت الحرب في تنامي كتلة عالمية من دول كانت تعد صديقة لإسرائيل والغرب، ضد إسرائيل، فجنوب أفريقيا المصنفة كحليف للغرب قادت المبادرة في رفع قضية ضد إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية، بدعم علني وضمنى من عشرات الدول. ودول أخرى قلصت من علاقاتها الدبلوماسية والتجارية مع إسرائيل، وأخرى انخرطت في صدامات دبلوماسية قوية معها. ودلالة كل ذلك، هو نمط التعددية الذي بات سائدا في العالم، أي الخروج من كنف الهيمنة الغربية بل وتحديها. إذ يمكن القول إن حرب غزة كانت المتنفس لهذه الدول للتعبير عن نهج جديد في سياستها قائم على الاستقلالية مدعوماً أو مدفوعاً بتغير حاد في المزاج والسياسات الداخلية.

رغم أهمية الدلالات السابقة فإنها لا تقارن بالمفاجأة الأخطر على الإطلاق المحطمة فعليا وعمليا للصنم الإسرائيلي، والكاشفة بجلاء ليس فقط بالتعددية بل بالتهاوي الخطير للهيمنة الغربية، وهي التحول الجذري للمواقف الأوروبية تجاه إسرائيل والقضية الفلسطينية. في مشهد غريب تحولت كثير من الدول الأوروبية التي كانت داعما مطلقا لإسرائيل بين ليلة وضحاها إلى أكبر ناقد لإسرائيل، ففي 2024 اعترفت حوالي 5 دول أوروبية بفلسطين مخالفة للعرف السابق الذي تأسس على ألا اعتراف بدون تسوية كاملة، وفي الشهر الماضي أعلنت كل من فرنسا وأستراليا وإنجلترا عزمها الاعتراف بفلسطين. هذا بخلاف الخلافات الدبلوماسية والحرب الكلامية المستعرة بين إسرائيل ومعظم الدول الأوروبية، ومنع تصدير السلاح لإسرائيل وغيره.

والشاهد في ذلك، هو عمق التحول الجذري في النظام الدولي القائم الآن، فالاعتراف الأوروبي قد جاء ضمن جملة أمور، ليؤكد ضمنيا على التعددية وتسارع الدول الأوروبية على احتلال موقع متميز في هذه التعددية، وتعميق استقلالها عن واشنطن، والالتفات إلى مصالحها الخاصة دون النظر إلى تداعيات ذلك على تصدع النظام الغربي.

خلاصة القول، حطمت حرب الإبادة في غزة فعليا الصنم الإسرائيلي الذي ظل راسخا لعقود خاصة في العالم الغربي، والحقيقة أن تحطيم هذا الصنم أحد البواعث القوية الكاشفة للنظام الدولي الجديد الذي فيما يبدو سيتم الإعلان عنه رسمياً عن قريب.

صحيفة الشرق القطرية
حرب غزة وكسر الصنم _د. فاتن الدوسري