صلاح سلام
في خطوة غير مسبوقة، وتجسِّد الإنحياز الكامل لإسرائيل، وجّهت الولايات المتحدة الأميركية ضربة عسكرية صاعقة استهدفت منشآت نووية إيرانية، ما اعتُبر تحولاً استراتيجياً في التعامل مع الملف الإيراني، بعد سنوات من التوترات، والعقوبات، والمراوغات الدبلوماسية.
وبينما تؤكد واشنطن أن هدفها منع طهران من بلوغ «العتبة النووية»، حتى ولو إقتضى الأمر تدخلاً عسكرياً مباشراً، تتصاعد المخاوف من أن تكون هذه الضربة بداية سلسلة مواجهات قد تهدد استقرار الخليج والمنطقة بأسرها، وتؤدي إلى توسيع ساحة الحرب المشتعلة بين إيران وإسرائيل، وتعرّض الوضع في الإقليم إلى إهتزازات مفتوحة على شتى الإحتمالات، إثر إمتداد النيران إلى المصالح الأميركية.
حملت الضربة الأميركية لمنشآت فوردو ونطنز وأصفهان النووية، رسالة واضحة بأن الولايات المتحدة لن تكتفي بسياسة الاحتواء أو العقوبات، بل مستعدة للانتقال إلى «الردع بالقوة» لمنع إيران من امتلاك قدرات نووية تهدد حلفاءها ومصالحها في المنطقة. وجاءت الضربة في توقيت حرج، وسط انسداد أفق العودة إلى الاتفاق النووي، وجمود المفاوضات بين واشنطن وطهران بعدما إستمرت على مدى شهرين، فضلاً عن تصاعد التهديدات ضد المصالح الأميركية من قبل جماعات مرتبطة بطهران، في العراق واليمن.
غير أن هذه الخطوة لا تخلو من محاذير استراتيجية. فاستهداف منشآت نووية، حتى وإن كان محصورًا بمواقع ذات طابع عسكري أو بحثي، ينطوي على خطر بيئي وأمني، ويزيد من احتمالات انزلاق المنطقة إلى صراع مفتوح تتداخل فيه الحسابات النووية مع الحسابات الإقليمية.
الضربة المباغتة بقدر ما أرادت أن تُظهر الحزم الأميركي، فإنها جعلت القواعد العسكرية الأميركية المنتشرة في الخليج هدفاً مباشراً لرد طهران أو لأذرعها. فالحرس الثوري الإيراني لا يُخفي قدرته على استخدام الصواريخ والطائرات المسيّرة لضرب مواقع أميركية في المنطقة، ما يهدد ليس سلامة القوات الأميركية وحسب، بل الأمن والإستقرار في الدول المعنية، ويُربك العمليات اللوجستية في حال توسُّع المواجهة، وتكون إيران عندها قد خرجت عن السيناريو التقليدي في إعتماد «حرب الظل» أو «الرد بالتقسيط»، الذي اعتمدته في السنوات الماضية لتجنب الصدام المباشر مع خصومها.
قرار ترامب بالتدخل العسكري المباشر قد يؤثر بشكل مباشر على المصالح الأميركية في قطاع الطاقة، لا سيما أن مضيق هرمز، الذي تمرّ عبره نحو 20% من تجارة النفط العالمية، أصبح مهدداً بالإقفال أكثر من أي وقت مضى. وأي عملية تعطيل للملاحة أو استهداف لناقلات النفط قد يؤدي إلى ارتفاع حاد في أسعار الطاقة، ما ينعكس سلباً على الاقتصاد العالمي، ويُحرج الإدارة الأميركية داخلياً. وإقفال هذا المضيق الإستراتيجي لا يحتاج إلى معركة طاحنة، إذ يكفي، حسب خبراء عسكريين، زرع مئات الألغام البحرية، ليس لعرقلة حركة الملاحة فيه خلال فترة المواجهة العسكرية فقط، بل أيضا لتعطيل الحركة لأشهر بعد إنتهاء الحرب، وهي الفترة التي تستغرقها عمليات التنظيف من الألغام.
من المتوقع أن تثيرالضربة الأميركية بعض ردود الفعل العنيفة في ساحات النفوذ الإيراني، من اليمن والعراق إلى لبنان، فالحوثيون قد يصعّدون استهدافهم للسفن الأميركية في البحر الأحمر، بينما تتجه الأنظار إلى حزب الله في لبنان، حيث يُخشى من إدخال الساحة اللبنانية في قلب المعادلة الانتقامية، رغم معارضة الدولة والأكثرية الساحقة من اللبنانيين، ما يهدد الاستقرار الهش في بلد يعاني أصلاً من أزمات سياسية واقتصادية خانقة.
في ضوء المؤشرات الراهنة، يبدو أن المنطقة مقبلة على مرحلة دقيقة من الترقب والتوازنات الهشة. فإذا ما جاء الرد الإيراني محدودًا ومحسوبًا، كما حصل بعد إغتيال قاسم سليماني عام ٢٠٢٠، فقد تنجح قنوات دبلوماسية خلفية ــ دولية أو إقليمية ــ في احتواء التصعيد، وفتح باب جديد أمام تسوية شاملة تُعيد إحياء مسار المفاوضات النووية وفق شروط جديدة. أما إذا إستمرت الضربات الأميركية المدمِّرة، وإستطاعت طهران الردّ الواسع، سواءٌ عبر ساحات النفوذ أو عبر الاستهداف المباشر، فإن الشرق الأوسط سيكون على موعد مع تصعيد دراماتيكي خطير، قد يمتد إلى دول الخليج وبلدان المشرق العربي، مع ما يحمله ذلك من تداعيات إنسانية واقتصادية وأمنية يصعب حصرها.
كل المعطيات تُشير إلى أن ما بعد الضربة الأميركية الموجعة ليس كما قبلها. والرهان اليوم بات على قدرة الأطراف الكبرى، ولا سيما واشنطن وطهران، على إدارة المواجهة بحكمة، وسلوك دروب التسوية، وتجنُّب الوصول إلى نقطة اللاعودة، والانجرار إلى حرب قاسية لا رابح فيها… إلا الخراب!
صحيفة اللواء