الدكتور لويس حبيقة
مع العهد الجديد، لا بد من تعاون الجميع في كل السلطات للتسريع في اقرار موازنات واقعية بالتوقيت الدستوري تعكس ما يجري على الأرض وتضع تصورا للمستقبل القريب وحتى للسنوات الست القادمة. وافق المجلس النيابي على موازنة 2024 مع توازن رقمي محاسبي مدهش بسبب وضع العديد من الانفاق خارج الموازنة. يقوم الصراع اليوم حول موازنة 2025 حيث الأرقام تغيرت جدا بعد الحرب المدمرة. اقتصاد لبنان اليوم غير اقتصاد 2023 وحكما يختلف عن اقتصاد ما قبل ذلك. هنالك من يقترح أن تصدر موازنة 2025 بمرسوم وربما هذا قانوني لكنه غير واقعي وغير مفيد لأن اقتصاد اليوم مختلف عن ما قبل الحرب الأخيرة. اصدار موازنة 2025 بمرسوم يعتبر هروبا الى الأمام ولا يساهم في تصحيح الوضع المحاسبي العام.
في بلد كلبنان اليوم، لا يمكن لموازنة تعكس الوضع الحقيقي للاقتصاد الا أن تكون عاجزة اذ أن الحاجة للانفاق كبيرة بينما القدرة على تحصيل ايرادات كافية ضئيلة. اذا أضفنا خدمة الدين العام، يصبح من المؤكد أكثر أن الموازنة ستكون عاجزة. بالرغم من أن موازنة 2024 لم تعكس عمليا الواقع الحقيقي للاقتصاد، الا أن الموافقة عليها اعتبر مبررا شرط أن تقوم الحكومات اللاحقة بتعديل وتصحيح الأرقام كي تصبح الموازنات المستقبلية أكثر واقعية.
موازنة غير مرضية أفضل من لا موازنة، أقله تساهم في وضع البلد من جديد ولو خطوة واحدة على الطريق الصحيح. البدء من شيء ولو متواضع أفضل من الفراغ المضر. من الضروري أيضا فهم الواقع المحاسبي الماضي أي وضع قطع الحساب كي يبنى المستقبل على معلومات دقيقة وشاملة. الموازنة هي أرقام مستقبلية لسنة تبنى على الماضي وعلى التوقعات كما على سياسات انفاق مدروسة وسياسات ضرائبية وايرادات عامة تعالج جزئيا الفجوة المتزايدة في الدخل والثروات بين اللبنانيين.
يحتاج النظام الضرائبي الى تعديلات دورية وهذا هو حال كل الدول. لن يتم ذلك قبل أن تستتب الأمور السياسية. أهم من ذلك هو التحصيل الضرائبي، اذ ماذا ينفع التعديل اذا لم تجب الضرائب والرسوم. لا يمكن أن يترك لبنان من دون انفاق استثماري، فكيف يمكن غض النظر عن أوضاع الطرق وكافة البنية التحتية؟ كفانا اضاعة للوقت والفرص في وقت ينتقل خلاله العالم الى أجواء الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الفضائية والعملات الرقمية والمشفرة ونحن نتشاجر في لبنان حول كيفية سحب بعض دولاراتنا من المصارف وعلى أي سعر صرف ومتى وغيرها من الأمور البدائية. مهم جدا أن تقرر الحكومات المستقبلية الغاء المجالس والمؤسسات التي لم نعد بحاجة اليها ليس فقط لتخفيف الانفاق وانما لجمع قوتنا في الأماكن الضرورية. يحتاج لبنان الى ادارة فاعلة تخدم المواطنين بأدنى تكلفة ممكنة. المطلوب ترشيد الانفاق في كل أبواب الموازنة شرط حماية الأمن الاجتماعي وتقوية الاستقرار.
في وضع لبنان الحالي أي الفراغات المختلفة والشلل الواضح في العمل الاداري والسياسي، لا يمكن وضع موازنات صحيحة واقعية. العودة الى زمن الموازنات الصحيحة يتطلب عودة الاستقرار السياسي والأمني والاداري كي يعود النمو الى الاقتصاد. عندما يحصل النمو لفترات طويلة متواصلة، تتحسن الايرادات تلقائيا وبالتالي تتمكن عندها الحكومات من تمويل الانفاق الضروري في كل المجالات. نحتاج في لبنان الى تمويلين استثماري وجاري كافيين لكل القطاعات. نحتاج الى تمويل الأجور التي تسمح للموظفين بالعودة الكاملة الى العمل. الانفاق على البنيتين التحتية والفوقية هو انفاق على المستقبل أي مستقبل الأجيال القادمة. لا شك أن على لبنان أن يعود الى نادي الدول التي يرغب المجتمعين الداخلي والخارجي في اقراضها لأننا نحتاج الى بعض الاقتراض لتعجيل عملية البناء. خطأ عدم تسديد السندات سابقا ما زال يلاحقنا ولا بد من تصحيح هذا الوضع مستقبلا.
هنالك أمور لا بد من معالجتها بعد أن يملأ الفراغ السياسي والاداري وهو اعطاء الفرصة للمؤسسات النقدية والقضائية والادارية للعب دور كبير يعزز ثقة المواطن بالدولة. يجب أن يتحقق هذا الهدف بالتزامن مع محاربة الفساد الذي امتد مؤخرا الى كل جوانب الدولة في القطاعين العام والخاص. نحن مقتنعون بأنه لا يمكن القضاء في لبنان على الفساد لأنه أصبح شطارة وثقافة، الا أنه من الممكن تخفيفه بنسب محترمة حتى تعود الثقة داخل المجتمع. لن تتحقق الاصلاحات المنتظرة أهمها المالية والمصرفية والادارية قبل أن تبدأ الحكومات بمحاربة الفساد المرتبطة بعودة هيبتها في الميادين الاجتماعية والسياسية والادارية.
ان توقيع اتفاق نهائي مع صندوق النقد وعودة الحرارة الى العلاقات مع كل الدول العربية سيسمح لنا بلعب دور أكبر ايجابي لمصلحة المنطقة. يحتاج لبنان الى الأموال للقيام بالاصلاحات المطلوبة ولتسديد كل الودائع المصرفية. لبنان الصغير جغرافيا لا يمكن أن ينهض وينمو الا في أجواء سلم حيث تتفجر عندها الطاقات الانسانية والفكرية الموجودة لمصلحتنا ولمصلحة المنطقة. ترك اللبناني مكشوف صحيا وتعليميا واجتماعيا غير مقبول حاضرا ومستقبلا وبالتالي يجب الاهتمام بالأمن الاجتماعي الى أقصى الحدود.
في السنوات القليلة الماضية تحول الاقتصاد اللبناني من متطور ايجابي ينضج مع الوقت الى متأخر يتكل على النقد للتبادل. الأزمة المصرفية وحجز الودائع ضربا ثقة المواطن والشركة في المصارف، وبالتالي أصبح الاتكال على النقد للتبادل. حتى يستطيع الاقتصاد اللبناني النهوض علينا جميعا بذل كل الجهود لاعادة الثقة الى المصارف التي يجب أن تلعب دورها في خدمة الاقتصاد. من ناحية الموازنة كيف يمكن تحصيل الضرائب والرسوم في اقتصاد نقدي شرعي أو غير شرعي؟ مستحيل، من هنا وضع موازنات مستقبلية تعكس الواقع وتبني للمستقبل يرتكز على اقتصاد مؤسسات يسمح بتطبيق سياسات اقتصادية واضحة تقضي على الفساد وتطور الاقتصاد.
صحيفة اللواء