محمد كريشان
لا شيء طبعا يجمع بين غزة وأوكرانيا. لا شيء عدا شيء واحد هو أن ترامب الذي فرض ما سمي بخطته للسلام في القطاع، وانتزع لها من التأييد العربي والدولي ما أصبغ عليها شرعية دولية من مجلس الأمن، هو نفسه من يسعى حاليا لتسوية في أوكرانيا محاولا أن يجعلها خطة مقبولة دوليا هي الأخرى.
المشترك بين ما فُرض في غزة وما يُعمل عليه في أوكرانيا هو في النهاية مجازاة المعتدي بحيث لا يخرج هذا المعتدي من أية تسوية، وقد يمُنّ على العالم أنه قبلها، إلا وقد نجح من خلالها في تحقيق ما عجز عنه بقوة السلاح، خلال عامين في غزة وزهاء الأربع سنوات في أوكرانيا.
لنلق نظرة عما يقال حاليا عن مخطط ترامب لإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية لنرى كيف أن الكثير مما يقال حولها يتقاطع في الكثير من أوجهه مع غزة، التي تعيش حاليا «هدنة» هي في الحقيقة استمرار لنفس حرب الإبادة بضجة دولية أقل.
يقول موقع «ذي إنسايدر» الأمريكي إن خطة ترامب لإنهاء الحرب في أوكرانيا هي خطة روسية معاد تدويرها، وقد اطّلعت عليها قبل عدة أشهر من خلال مصدر مقرب من الحكومة الروسية. أما صحيفة «وول ستريت جورنال» فرأت أن الشروط الواردة في هذه الخطة «بدت منحازة لموسكو»، فيما اعتبر تحليل لشبكة «سي أن أن» أن «ترامب منح روسيا كل ما تريده تقريبا» وأن أجواء التفاؤل التي تشاع حولها «مقصودة ومخطط لها» وذلك في محاولة لاستغلال الزخم الذي تخلقه لفرض تسوية لا تبدو عادلة.
لكل ذلك، لا يبدو مستغربا أن تنقل «واشنطن بوست» عن مسؤول سابق في الكرملين قوله إن «الخطة منحازة لروسيا التي هي الأقوى الآن بحيث أن هذا الانحياز يبدو الأكثر واقعية»، فيما لم يتردد ديمتري بيسكوف المتحدث باسم الكرملين من القول «نحن مهتمون بتحقيق أهدافنا عبر الوسائل السياسية والدبلوماسية ولم يتغيّر موقفنا إطلاقا ونحن متمسكون به دائما».
لو وضعنا على ما سبق اسم غزة عوض أوكرانيا ووضعنا إسرائيل عوض روسيا فسنرى أن الأمور تكاد تكون نفسها، بمعنى أن القوي استطاع أن يفرض ما يريده، ربما بنسبة أقل مما كان يسعى إليه بالكامل، وأن توقف أصوات المدافع والغارات، بحصيلة مكاسب لا يستهان بها، يظل في النهاية بالنسبة إليه أفضل من استمرارها دون الحسم النهائي المأمول.
في نهاية المطاف، ما تريده واشنطن تستطيع فرضه في «المناطق الرخوة» من هذا العالم وأصحابها المنهكين المستسلمين لـ«القدر الأمريكي
ما يدفع أكثر في هذا الاتجاه هو تقاطعه أصلا مع ما يؤمن به الرئيس الأمريكي ويردّده دائما وهو «السلام عبر القوة» الذي لا يعني في النهاية سوى فرض الاستسلام على الضعيف، بعيدا عن معايير العدالة أو الانصاف، وبعيدا حتى عن مقتضيات القانون الدولي الذي أرسى قواعده الغرب نفسه بعد الحرب العالمية الثانية للحيلولة دون سيادة قانون الغاب بعد فظاعات تلك الحرب.
الفرق هنا هو أن أوكرانيا تبدو متحفظة في القبول بكل ما يريده ترامب إلى درجة إشارة الرئيس زيلنسكي أن الملايين من شعبه «يستحقون سلاما كريما»، لا يوفّره ضمنيا المعروض عليهم حاليا، وخاصة تنازلها على ما يعادل خمس أو ربع أراضيها بحكم «الأمر الواقع». والفرق كذلك أن أوكرانيا وجدت في معظم الدول الأوروبية سندا لها في مواجهة حماسة ترامب الشديدة لتحقيق إنجاز شخصي له، حتى أن الرئيس الفرنسي قال إن المراد هو «سلام وليس استسلاما»، دون أن ننسى أن أوكرانيا قضية أمن أوروبي في الصميم تستدعي مثل هذا الموقف.
للأسف لم يكن الطرف الفلسطيني في وضع يسمح له برفض وقف الحرب بالنظر إلى الفاتورة الإنسانية الفظيعة التي دفعها أهالي القطاع، رغم الألغام المختلفة المتضمنة في خط ترامب بمراحلها المختلفة التي تسمح لإسرائيل بالالتفاف على ما لا ترغب فيه. وللأسف أيضا لم تجد المقاومة في غزة، لا خلال حرب الإبادة ولا خلال البحث عن وقفها، أي حزام عربي أو إسلامي يشد من أزرها، ولو بالمعنى الانساني والإغاثي البحت، بحيث لم يكن بإمكانها في نهاية المطاف سوى مسايرة هذا التمشي الجارف الذي وصل حد الاحتفاء المبالغ فيه في قمة شرم الشيخ.
نقطة الاختلاف الجوهرية هو أن التحفظ الأوكراني تجاه خطة ترامب، رغم الكلام الدبلوماسي المعسول الذي يراد من خلال اتقاء شر غضب رجل انفعالي خطير، وكذلك التحفظ الأوروبي، المعبّر عنه بجرأة تختلف عنه من دولة إلى أخرى، يمنعان وصول المسعى الأمريكي الحالي إلى تتويج نهائي من خلال قرار لمجلس الأمن الدولي كما حصل مع غزة. وبطبيعة الحال، لا يمكن لهذا التتويج أن يحدث إذا كانت روسيا تعارضه، وربما الصين، فيما يظل الموقفان الفرنسي والبريطاني رهيني ما ستؤول إليه الصيغة النهائية للتسوية.
في نهاية المطاف، ما تريده واشنطن تستطيع فرضه في «المناطق الرخوة» من هذا العالم وأصحابها المنهكين المستسلمين لـ«القدر الأمريكي» لكنها تعجز، أو على الأقل تتعثّر، عندما تصبح المسألة مع مناطق وأطراف ليسوا كذلك.
القدس العربي