ياسر أبو هلالة
بوينغ 747 وقد كُتب عليها "HAMAS FORCE ONE"، وهو تعديل ساخر ومركّب على الاسم الشهير لطائرة الرئاسة الأميركية "Air Force One". علم الولايات المتحدة ظاهر على ذيل الطائرة. الصورة معدّلة "فوتو شوب" وليست حقيقية، وهي تردّ بسخرية على الحملات التي شنّت على قطر بسبب إهدائها للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الطائرة الفاخرة، وكأن الطائرة ثمن الصفقة لوقف الحرب في غزّة.
احتلت قصة الطائرة حيزاً كبيراً في الإعلام الأميركي، وهاجم الرئيس ترامب منتقديه "... حقيقة أن وزارة الدفاع تحصل على هدية، مجاناً تماماً، طائرة من طراز 747 لاستبدال طائرة "إير فورس ون" التي عمرها 40 عاماً، مؤقتاً، وفي عملية علنية وشفافة جداً، تزعج الديمقراطيين الفاسدين إلى درجة أنهم يصرّون على أننا ندفع مبالغ طائلة مقابل الطائرة. أي أحد يمكنه فعل ذلك! الديمقراطيون خاسرون من الطراز العالمي!".
ويؤكد مسؤولون في البيت الأبيض والإدارة، بحسب صحيفة واشنطن بوست، أن الهدية تتوافق مع القوانين ذات الصلة، على الرغم من المخاوف التي أثارها منتقدو ترامب بشأن انتهاكها بند المكافآت في الدستور. بينما كانت المناقشات بشأن نقل ملكية الطائرة جارية، صاغ مكتب المستشار القانوني في وزارة العدل مذكّرةً توضح أسباب اعتقاده أن استلام ترامب الطائرة سيكون جائزاً، وفقاً لمسؤول مُطّلع على المذكرة. ووقّعت المدّعية العامة بام بوندي، المُسجّلة للضغط السياسي لصالح قطر خلال ولاية ترامب الأولى، على تلك المذكرة لاحقًا. وقال ترامب الاثنين إنه بمجرد مغادرته منصبه لن يستخدم الطائرة القطرية، وستُنقل إلى مكتبته الرئاسية المستقبلية.
يدرك كل صاحب ضمير، وعربي شريف، أن قطر لم تدّخر وسعاً في الوقوف مع فلسطين، ودعمت غزّة ورام الله على السواء، وبذلت بسخاء بلا منّة. ولاقت، بسبب ذلك، حملات شعواء من الصهاينة بالحق وبالباطل، ولا تزال. لنتذكّر أن الوزيرة العربية الوحيدة التي رابطت في غزّة هي لولوة الخاطر، وأن قطر البلد الوحيد الذي يستقبل قادة حركة حماس وأسرهم.
تستطيع أن تنتقد التخاذل العربي، وترك غزّة تقاوم وحيدة الإجرام الصهيوني، وتخجل من الضعف الذي يلجئك إلى الولايات المتحدة بدلاً من الاعتماد على القوة العربية الذاتية. وتنتظر حتى ينهض العرب ثانية، ويعتمدوا على قوتهم الذاتية. في غضون ذلك، طالت أم قصرت، لا توجد في الواقع قوة قادرة على الضغط على إسرائيل غير الولايات المتحدة. ويدرك كل من يتابع الإعلام الإسرائيلي أن ثمّة فجوة بدأت تتسع بين رئيس حكومة الاحتلال نتنياهو وترامب. وهذا لا يعني تحوّلاً استراتيجياً في علاقات البلدين، فتلك تتجاوزهما وتضرب عمقاً في التاريخ والثقافة والمصالح، بقدر ما يعني أن ثمّة فرصة على العرب أن يغتنموها كفّاً للأذى وجلباً للمصالح.
يوجد منطق مختلف تماماً في التعامل مع ترامب عن غيره من رؤساء البيت الأبيض، سواء في سياسته الداخلية أو الخارجية. وخلال ولايته، لا بد من توثيق العلاقة به، عبر تقديم الهدايا له، من العرب، ومن حالفهم عموماً، وقد قدّمت "حماس" هدية أيضاً بالإفراج عن الأسير ألكسندر عيدان بوساطة قطرية. وهذه ليست المرة الأولى التي تكون فيها قطر مركز ثقل دبلوماسي، ويتذكر ترامب جيداً دورها في إنهاء أطول حروب أميركا في أفغانستان، غير أن القضية الفلسطينية تظلّ الأولوية عربياً، ولا يلغي هذا سلّةً من القضايا الكبرى، ثنائياً وعربياً وعالمياً.
يحتاج العالم العربي والمنطقة إلى أميركا، ولها قواعد عسكرية في قطر والسعودية والإمارات والبحرين والأردن والعراق وسورية، وهي حاجة متبادلة، وليست من طرف واحد، والمهم، والخليج يستضيف ترامب، أن تصل رسالة أن مصالح أميركا مع العالم العربي والإسلامي لا تقلّ أهمية عن مصالحها مع دولة الكيان. وتلعب الحكومة الإسرائيلية المتطرّفة دوراً مهمّاً في تسهيل إيصال الرسالة وتحسين صورة العرب، باعتبارهم عقلاء في مواجهة مصاريع.
بلغة المصالح، فضلاً عن عدالة قضايانا، يمتلك الخليج أكبر ثقل مالي، وفقاً لتقرير نشرته مجلة The Economist في إبريل/ نيسان 2023، يُقدّر أن الفائض في الحساب الجاري لدول الخليج النفطية قد يصل إلى حوالي 666 مليار دولار خلال عامي 2022 و2023، ما يعكس تدفّقاً نقدياً كبيراً نتيجة ارتفاع أسعار النفط والغاز. كما نشرت "وول ستريت" تقريراً عن دول الخليج التي تمتلك أكبر سيولة نقدية في العالم، فالسعودية تمتلك احتياطيات أجنبية تُقدّر بحوالي 452.6 مليار دولار حتى نهاية مارس/ آذار 2023، ما يضعها ضمن قائمة الدول العشر الكبرى عالميّاً، من حيث الاحتياطيات الأجنبية. وتقدّر الإمارات احتياطياتها النقدية بحوالي 300 مليار دولار، تشمل أصول جهاز أبوظبي للاستثمار وصناديق أخرى. وقطر، بحسب الصحيفة، تُقدّر احتياطياتها النقدية بحوالي 200 مليار دولار، تشمل احتياطيات مصرف قطر المركزي وأصول جهاز قطر للاستثمار. وتمتلك الهيئة العامة للاستثمار في الكويت: أصولاً تُقدّر بأكثر من 700 مليار دولار، ما يجعلها واحداً من أكبر صناديق الثروة السيادية عالميّاً.
يقدّر ترامب هذه السيولة جيداً، وتعني له أكثر بكثير من صداقة إسرائيل التي تستنزف سيولة الولايات المتحدة عبر المساعدات العسكرية والاقتصادية، ومن دونها تأتي أهمية بلدين مسلمين مهمين يتشاركان مع العرب في دعم فلسطين، تركيا وإندونيسيا، ولهما أهمية استراتيجية قصوى بالنسبة لإدارة ترامب. ومعلوم أن الرئيس التركي، أردوغان، شخصياً، بالإضافة إلى الأهمية الاستراتيجية لتركيا، على علاقة استثنائية مميزة مع ترامب. وفي مقال كتبه ديفيد إغناتيوس، المقرّب من الدوائر الاستخبارية والعسكرية في واشنطن، ذكر أن ترامب يحبّ الرجال الأقوياء، ووُضع على المقال رسم لرؤساء تركيا وروسيا والصين. وتركيا اليوم بيضة القبّان في أوروبا، تحتاجها أوروبا في ظل التخلي الأميركي عنها، وتحتاجها روسيا في صراعها مع أوكرانيا، ويحتاجها ترامب لوقف الحرب الأوكرانية الروسية. فوق ذلك، تركيا واحدة من الدول العشرين الكبرى في الاقتصاد العالمي.
أما إندونيسيا التي يتوقع أن تكون خامس اقتصاد في العالم في الأعوام المقبلة، وهي أكبر بلد إسلامي، فتشكّل بيضة القبّان في آسيا في ظل الصراع الصيني الأميركي. تحتاج إليها الصين بقدر ما تحتاج إليها أميركا، سواء بسبب موقعها الاستراتيجي وثرواتها المعدنية، وقوتها العسكرية والبشرية. سيما أن المعركة الأولى بالنسبة لترامب هي الصين، وليست روسيا. لنا أن نتخيّل حجم الهدية التي يمكن أن تقدّمها الدول العربية والخليج بخاصة، وتركيا وإندونيسيا لترامب، وتطرح عليه مقايضة ذلك برفع الظلم عن الشعب الفلسطيني؟
ستكون تلك خطوة مهمّة لها ما بعدها، المأمول أن نبدأ خطوة في الألف ميل مع ترامب. قضية فلسطين هي القضية الأولى لكنها ليست الوحيدة، فسورية اليوم تحت حصار قاتل، وشعبها يعاني بسبب العقوبات الأميركية، وقد قدّمت الدولة السورية الجديدة كل أوراق الاعتماد لرفع العقوبات، بما فيها بناء برج ترامب في دمشق. من دون أن ننسى أن ترامب اعترف بضم الجولان، وهي أرض سورية عربية خالصة، وبنى الإسرائيليون فيها مستوطنة باسمه. وحتى في ملفّ إيران، يستطيع العرب ضمّها لهم، بدلاً من أن تكون عليهم، وتقديم مقاربة جديدة بخصوصها في ظل الهزيمة التي تلقّتها في سورية، فالذين هزموها هم السوريون لا الإسرائيليون، وإعاده تأهيل إيران من خلال المفاوضات النووية تسجّل للعرب أيضاً. هزيمتها في سورية سرّعت التفاوض، والوساطة العُمانية والقطرية مهمّة. مركز المفاوضات عُمان، وكان لقطر قبلها دور كبير في العلاقة الأميركية الإيرانية، وشكّل الاتفاق السعودي الإيراني الموقّع في بكّين في 2023 مقدّمة أرضية مناسبة لبناء علاقة جديدة لإيران في المنطقة، تقوم على التعاون والشراكة والاحترام في الاختلاف، بدلاً من الاحتراب والصراع الأبدي طائفياً.
واللفتة الأهم من ترامب كانت وقف الحرب مع الحوثيين، ما اعتبره الإسرائيليون ضربةً لهم. ويأتي العراق في قلب التحولات الإيرانية، وفي ظل تآكل القوة الإيرانية خفّت قبضة الحرس الثوري على العراق. وصارت حكومة محمد شيّاع السوداني جزءاً من منظومة عربية أكثر منها دائرة في فلك إيران. وقد يكون العراق المستقل عن إيران الهدية الكبرى لترامب.
المطلوب اليوم بناء تحالف عربي إسلامي داعم للحقوق العربية في فلسطين، ويرفع العقوبات عن سورية، ويعيد إعمارها، وإعمار غزّة. ويرفع هذا التحالف قيمة الجميع ويضعف إسرائيل، بدلاً من التعامل بشكل ثنائي مع أميركا، وهو ما يضعف الجميع ويقوّي إسرائيل.
... لا توجد هدية ما وراها جزية (جزاء)، لا في العلاقات الشخصية ولا علاقات الدول.