أحمد الغز
إن تبسيط الأمور المعقدة ليس مجرد خطأ في المنهج أو ضعف في التحليل، بل هو مسار مباشر نحو تسطيح الوعي ومنع العقل من إدراك اللحظات الفاصلة، سواء كانت اللحظة عامة تطال الجماعات أو خاصة تمس الأفراد، فعندما تختصر القضايا المعقدة في عبارات سطحية، يفقد الإنسان القدرة على فهم ذاته وفهم الآخر، ويعيش ضمن دائرة من الافتراضات الوهمية، فيختلط عليه التمييز بين العنف والقوة، الربح والصح، النجاح والنجاة.
المعادلات والمعايير والقيم تشكل ضرورة بديهية في تشكيل الوعي الفردي والجماعي، وتشتد الحاجة اليها في ازمنة الحروب والانهيارات حين تتراجع الروادع الأخلاقية والسياسية وتتآكل القيم الجامعة، وتتراكم الالتباسات في المعاني الوجودية والوطنية، عندها تتحلل المواثيق وتتصدع العقود الاجتماعية، وتتهاوى الدول والمنظومات العقائدية والايديولوجية.
حين تختزل الوقائع المؤلمة في صور مبهمة ومبسطة، وتتقدم الاستثناءات على القواعد والكراهية على المودة والخصومة على المصالحة والظلم على الانصاف والخداع على الوضوح، مما يؤدي الى استغراق الناس في التخاطب الوهمي، ويصبح الوعي مجرد من الحقائق والوقائع وأسير الرغبات والامنيات، مما يتيح التمادي في استخدام القوة في قهر الفئات الضعيفة المشردة في العراء.
نقف اليوم في لحظة عالمية تتقاطع فيها نهايات كبرى مع بدايات لم تتكشف ملامحها بعد، لحظة تائهة بين الماضي الذي ينهار والمستقبل الذي لم تتضح ملامحه، الضياع في هذه المرحلة ليس حدثا عابرا، بل حالة جماعية ناتجة عن تصدع القيم وتفكك المجتمعات وانكشاف هشاشة الأقوياء قبل الضعفاء.
نقف اليوم على ضفاف طوفان جديد، يهدد الوعي البشري بالضياع والفشل، ويدفعه نحو تبسيط الانخراط في الحروب والنزاعات، والعالم بأمس الحاجة إلى (نوح السياسي ) الذي يعيد الى السياسة بعدها الاخلاقي ويجدد التوازن بين الوعي البشري والذكاء الاصطناعي، ونوح السياسي لا يولد من فراغ بل من مجموعات صلبة من العقلاء الانقياء الذين يحترمون عقول الناس ومحررين من التبسيط و التضليل والاسقاطات والانانيات، و لا بد ان يمتلك نوح السياسي خيال انساني قادر على ابتكار مسارات آمنة تخرج العالم من تداعيات الخفة والفوضى والضياع ... ما بعد الطوفان.
صحيفة اللواء