تُعدّ الطائفة الشيعية في لبنان إحدى الركائز الأساسية في النظام السياسي اللبناني تماماً كما في عدم انتظامه، حيث تتوزّع أدوارها بين محورَين أساسيَّين، «محور الممانعة وولاية الفقيه» ذات الهيكلية الاقليمية الدينية والعسكرية، التي تتبع للمرشد الاعلى للثورة الإسلامية في إيران، والذي ينخرط فيه حزب الله ويتبنّى «نهج المقاومة ذات الخلفية الجهادية» ويتّخذ من وحدة الساحات مبرّراً للقيام بأعمالٍ عسكرية لا ترتبط بالضرورة بالمصلحة الوطنية اللبنانية، و»محور الحوار والشراكة الوطنية» الذي يمثلّه الرئيس نبيه بري، المؤتمن بهذا الخصوص كرئيسٍ لحركة أمل «أفواج المقاومة اللبنانية» على نهج مؤسّسها الامام موسى الصدر القائم على الاستقلالية الفكرية والدينية عن أي دولة خارجية والمتمسّك بخيار مواجهة العدوّ الاسرائيلي كخيارٍ دفاعيٍّ وطنيٍّ مرحليٍّ وليس كخيارٍ عسكريٍّ ودينيّ استراتيجيٍّ دائم للطائفة الشيعية على امتداد تواجدها الجغرافي في المنطقة، والمُمسك في ذات الوقت بصفته رئيساً للمجلس النيابي منذ أكثر من ثلاثة عقود بمطرقة ساحة النجمة، والموجّه لعقارب ساعتها تقديماً أو تأخيراً لموعد انتخاب رئيسٍ للجمهورية بحسب مقتضيات التوافق الذي يُصرّ على أن يحظى به شخص الرئيس العتيد.
وبين هذين المحورَين، يظهر توازنٌ دقيق، يعكس الاختبارات التي تواجه الطائفة الشيعية في لبنان، خاصةً بعد اغتيال اسرائيل للسيّد حسن نصرالله وعددٍ كبيرٍ من قيادات حزب الله، حيث يبرُز التحدي الذي يواجه رئيس المجلس بعد هذه الاغتيالات في الموازنة بين المكتسبات الكبيرة للشيعة في السنوات الماضية نتيجة حصرية السلاح خارج الدولة بيَد حزب الله، والمخاطر التي نتجت عن الانقسام اللبناني حول هذا السلاح واستخداماته داخلياً واقليمياً بشكلٍ أصبح يُهدّد الوحدة الوطنية وعلاقات لبنان العربية والدولية.
فإحدى أبرز التحديات التي تواجه الرئيس بري اليوم، بعد الحرب الهمجيّة التي شنّتها اسرائيل على لبنان مستهدفةً بشكلٍ أساسي مناطق الثقل الشيعي في الجنوب والبقاع وفي العاصمة بيروت وضاحيتها الجنوبية، هي ضمان بقاء الطائفة الشيعية ضمن الحاضنة الوطنية للدولة اللبنانية واعادتها الى الحضن العربي، للحدّ من حدّة الانعكاسات السلبية التي قد تواجهها بفعل التحولات الدولية والإقليمية وحتى المحلّية التي رافقت هذه الحرب ووقف اطلاق النار فيها، نتيجة انغماس حزب الله في محور الممانعة وتعزيز ارتباطاته الخارجية في إطار الصراع الإقليمي التي تقوده إيران، ما أدى الى تباعدٍ بينه وبين الكثير من المكونّات اللبنانية، حتى تلك التي كانت في حلفٍ أو تفاهمٍ معه طيلة العقدَين الماضيَين، ناهيك عن القلق الذي يسود البيئة الشيعية حتى بعد وقف اطلاق النار والذي يُمكن اعتباره أشدّ خطورةً على هذه البيئة من الحذر الذي تبديه تجاهها باقي المكوّنات «الطائفية» والناتج عن تعمّد العدوّ الاسرائيلي استهداف النازحين المدنّيين في القرى والبلدات التي نزحوا اليها، ردّاً على التكاتف الوطني والاحتضان الانساني لهم على كامل مساحة الوطن خلال فترة الحرب.
وفي مواجهة هذه التحدّيات، يبرُز دور وحضور الرئيس بريّ كحالةٍ فريدةٍ في الحياة السياسية اللبنانية، بمقدورها التعامل بجدارةٍ مع كل التناقضات التي تُحيط بالمشهد السياسي اللبناني والتواصل مع كل الفرقاء البارزين فيه، فحلفه الثابت مع حزب لله وصداقته مع أمينه العام السابق السيّد حسن نصرلله لا تشوّش على متانة علاقته مع الولايات المتحدة الاميركية والودّ الظاهر الذي يجمعه بالوسيط الأميركي آموس هوكستين عند زيارة هذا الاخير له في عين التينة، تحالفه السياسي في بيروت والجبل وحاصبيا مع المير طلال والسراي الارسلانية لا يُفسِد في الودّ قضية في صداقته التاريخية مع وليد بيك وقصر آل جنبلاط في المختارة، اجتماعه البارد في محورٍ سياسيٍّ واحد مع التيار الوطني الحرّ ورئيسه النائب جبران باسيل لا يحول دون حواراته الدافئة والمثمرة مع حزب القوّات اللبنانية ورئيسها سمير جعجع، أمّا علاقته بالسنّة فيختصرها شبه الاجماع الشيعي الذي أحاط به رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي الذي حظيَ في تكليفه الأخير في العام ٢٠٢٢ لتشكيل الحكومة بِ ٥٤ صوتاً منها ٢٦ صوتاً شيعيٍاًّ من أصل ٢٧ هو مجموع عدد النوّاب الشيعة في البرلمان اللبناني.
لا شكّ أن تربّع الرئيس برّي على رأس السلطة التشريعية في كلّ العهود الرئاسية منذ الطائف وحتى اليوم، وقدرته الاستثنائية على إدارة المفاوضات الدولية والحوارات الداخلية وتدوير الزوايا وحتى «ترويب البحر»، تجعل منه شخصيةً محوريةً قادرةً على المساهمة الفاعلة في تجنيب لبنان بشكلٍ عام وشيعة لبنان بشكلٍ خاص الانزلاق نحو الهاوية والسقوط بشكلٍ كاملٍ في لعبة المحاوِر القاتلة والمدمّرة، لا سيّما في أوقات التحوّلات الكبرى ومنها ما تشهده المنطقة حالياً، وهو ما تأكّد خلال الشهرَين الأخيرَين عبر نجاحه في ادارة التفاوض، داخلياً مع رئيس الحكومة ومع قيادة الحزب رغم انقطاع التواصل بينهما منذ بداية الحرب بحسب ما أعلنه الرئيس نجيب ميقاتي، وخارجياً مع الوسيط الاميركي والموفدين الدوليّين، والتوصّل الى اتفاقٍ لوقفِ إطلاق النار بين اسرائيل وحزب لله.
وتوازياً مع انجاز هذا الاتفاق، يبرز مسعى الرئيس برّي في العمل على تهيئة الظروف لإنضاج طبخة الانتخابات الرئاسية بعد فراغٍ مستمرٍّ منذ أكثر من سنتَين كان فيه هذا الاستحقاق مجمّداً في ثلاجة انتظار اللحظة الدولية المناسبة التي يبدو أنها اقتربت، فاستعادت ساحة النجمة حيويّتها الضرورية لإخراج لبنان وشيعة لبنان من ساحة المعركة العسكرية مع العدوّ، والتي يدّعي كلّ من خاضها أو لم يُخضها في كلتيّ الجبهتَين النصر فيها، نحو ساحة المعركة الديمقراطية والتي سيكون لبنان الرابح الأول فيها، إذا ما قُدّر للمجلس النيابي ورئيسه النجاح في انهاء الفراغ الرئاسي، بصرف النظر عن اسم الرئيس.
من هنا تُبرز خطوة الرئيس برّي تحديد جلسة انتخاب رئيسٍ جديدٍ للجمهورية في ٩ كانون الثاني ٢٠٢٥، دوره الأساسي في نقل القرار من ميدان المعركة العسكرية ورمالها المتحرّكة، الى لعبة الأصوات المتحرّكة تحت قبّة البرلمان، في لحظةٍ مفصليةٍ تمرّ فيها المنطقة برمّتها، خاصة مع الانطلاقة المرتقبة بعد حوالي الشهر لعهد الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، في ظلّ استمرار الحرب على غزّة وتمادي العدوّ الاسرائيلي في خروقاته لوقف إطلاق النار في أكثر من بلدةٍ لبنانيةٍ وصولاً الى التطوّرات العسكرية في سوريا والتي تُنذر بتداعياتٍ خطرة على استقرار المنطقة المهتزّ أصلاً كما على الوضع الامني في لبنان وان كان سيناريو صيف العام ٢٠١٤ ومعركة عرسال والتفجيرات الارهابية التي تلتها ما زال مستبعداً حتى هذه اللحظة.
يبقى أنه ومع تحديد رئيس المجلس موعداً لجلسة الانتخاب، والايحاء بأجواءٍ إيجابية لجهة أنها ستكون مثمرةً لا مثل سابقاتها، ما فتح نافذة أملٍ أمام اللبنانيين بإمكانية اعادة الانتظام الدستوري في البلاد بعد فترةٍ طويلةٍ من الفراغ القاتل، يؤمل أن ينجح الرئيس برّي في تقريب وجهات النظر بين الأطراف المختلفة، لضمان التوصل إلى توافقٍ حقيقيٍّ، لا على اسم الرئيس الذي يُفترض أن يُترك لصندوق الاقتراع السرّي، بل على ضرورة انجاز الاستحقاق دون تأجيلٍ اضافيٍّ، عبر مشاركة جميع الكتل والاحزاب والافرقاء في الجلسة بدورتها الاولى ودوراتها التالية اذا لزم الامر.
فلا شكّ أن نجاح نوّاب الأمّة، ومن ضمنهم كتلتيّ الثنائي الشيعي الاكبر عدداً والاكثر تماسكاً، والمدعوّتَين في هذا الظرف الى صياغة شراكةٍ صادقةً ومتكافئةً مع باقي الكتل والمكوّنات السياسية، في انتخابِ رئيسٍ «صُنِع في لبنان»، سيفتح مساراً أمام لبنان للخروج من أزماته المزمنة والمرحلية والآنية، ويؤسّس الى حوارٍ حقيقيٍّ وبناء، سيكون «الأستيذ نبيه»، كما يحلو لمحبّيه مناداته، وهو المتمرّس في هندسة الحوارات من قاعاتها الى قراراتها المصيريّة، مطالباً بتأمين الظروف المناسبة له مع رئيس الجمهورية الجديد وحكومة العهد الأولى ورئيسها من أجل التوافق على معادلةٍ وطنيةٍ متينةٍ لا تغلّب أحداً ولا تُلغي أحداً، تحترم التضحيات وتُراعي الخصوصيات، تُحافظ على نقاط القوة دون تحويلها الى وسائل للاستقواء، مصنوعة من «خشب الأرز والزيتون» لا من «اليورانيوم المخصّب»، تُخرج لبنان من المحاور، وتتخلّى عن الثلاثيات الخلافية، وتُكرس حقّ لبنان «الدولة والجيش والشعب» في الدفاع المشروع عن النفس كإطارٍ قانوني بمواجهة أي اعتداءٍ على سيادته، وتعزّز جبهته الداخلية وحاضنته العربية وغطاءه الدولي في مواجهة اي عدوانٍ اسرائيليٍّ أو من أي جهةٍ أتى وتسمح بتطبيقٍ سليمٍ وكاملٍ لاتفاق الطائف وتكرّس المساواة بين اللبنانيين وتحفظ لهم ذات الحقوق وتضعهم أمام ذات الواجبات.
صحيفة اللواء