السيادة السيبرانية.. تحديات الأمن الوطني في عالم بلا حدود _


د. خالد وليد محمود

تمثّل السيادة الرقمية اليوم تحديًا معقدًا للدول في عصر الثورة الرقمية، حيث بات الفضاء السيبراني ميدانًا جديدًا للتنافس بين الفاعلين الدوليين وغير الدوليين. الحدود السيبرانية، رغم كونها غير مرئية، أصبحت عاملًا جوهريًا في رسم ملامح الأمن الوطني، ما أثار تساؤلات عميقة حول قدرة الدول على حماية بنيتها التحتية الرقمية وبيانات مواطنيها، ومدى توافق هذا السعي مع الطبيعة المفتوحة والمترابطة للفضاء السيبراني.

* ففي عالم يتسم بسرعة التغيرات التكنولوجية، استطاع الفضاء السيبراني أن يعيد تعريف مفاهيم الجغرافيا والسيادة. هذا الفضاء غير الملموس يجعل الحدود الجغرافية تبدو هشة وعرضة للاختراق من جهات يصعب تحديدها أو تتبعها، سواء كانت مدعومة من دول أو منظمات غير حكومية. في ظل هذه التحديات، تسعى العديد من الدول إلى ترسيم حدود سيبرانية تتوازى مع حدودها الجغرافية، بغية حماية مصالحها السيادية وتأمين خصوصية مواطنيها. ومع ذلك، فإن هذه المحاولات تصطدم بطبيعة الفضاء السيبراني الذي يتجاوز الحدود التقليدية، ما يجعل السيادة فيه أكثر تعقيدًا.

* لقد أصبحت الهجمات السيبرانية واحدة من أخطر التهديدات التي تواجه الدول. في هذا السياق، لا تقتصر التهديدات على سرقة المعلومات أو تعطيل الأنظمة، بل تمتد إلى التأثير على البنى التحتية الحيوية مثل شبكات الكهرباء، أنظمة الطيران، والمصارف، مما قد يؤدي إلى شلل كامل في الحياة اليومية. ومع بروز الشركات التكنولوجية العملاقة التي تمتلك سيطرة هائلة على تدفق البيانات والمعلومات، أصبحت الدول تجد نفسها أمام تحديات جديدة تتعلق بفقدان السيطرة على فضائها السيبراني لصالح هذه الشركات.

* إن تجارب دول مثل الصين وإيران تقدم نماذج لسياسات تهدف إلى تعزيز السيادة السيبرانية. الصين، من خلال "الجدار الناري العظيم”، سعت إلى فرض سيطرة كاملة على الإنترنت داخل حدودها، ليس فقط لحماية بنيتها التحتية الرقمية، ولكن أيضًا للتحكم في تدفق المعلومات وحماية مصالحها الإستراتيجية. إيران، من جهتها، استثمرت موارد هائلة لإنشاء شبكة إنترنت وطنية بهدف تقليل الاعتماد على الشبكة العالمية وحماية بياناتها من التهديدات الخارجية. ومع ذلك، فإن هذه السياسات أثارت مخاوف بشأن انتهاك الحريات الفردية، حيث قد تُستخدم كأدوات للرقابة والسيطرة السياسية.

* فغياب الحدود التقليدية في الفضاء السيبراني يجعل من الصعب على الدول تطبيق قوانينها الوطنية، ما يخلق بيئة ملائمة للجرائم السيبرانية. ومع ذلك، فإن سعي الدول إلى رسم حدود سيبرانية يُظهر تحولًا نحو تعزيز دور الدولة الوطنية في الفضاء الرقمي، حيث تُعد الحوكمة الرقمية وسيلة لضمان أمن البيانات وتدفق المعلومات بشكل آمن. في المقابل، يثير هذا النهج تساؤلات حول تأثيره على الحريات الفردية وحقوق الإنسان في ظل تصاعد المخاوف من استغلاله لأغراض سلطوية.

* التطورات التكنولوجية، مثل شبكات الكابلات البحرية التي تدعم الإنترنت العالمي، باتت تعكس التفاوت الكبير بين الدول المتقدمة والنامية في القدرة على التحكم بالموارد السيبرانية. هذا التفاوت يُبرز أهمية التعاون الدولي لتطوير بنية تحتية رقمية أكثر شمولًا وعدالة. ومع ذلك، فإن الطبيعة العابرة للحدود للفضاء السيبراني تتطلب من الدول صياغة سياسات تتوازن بين حماية أمنها السيبراني والحفاظ على انفتاح الإنترنت كوسيلة للتواصل والتبادل المعرفي.

لقد بات واضحًا أن السيادة الرقمية لم تعد مجرد مسألة تقنية أو أمنية، بل هي قضية سياسية وإستراتيجية تعكس التنافس على النفوذ في النظام العالمي الجديد. وبينما تسعى الدول إلى استعادة السيطرة على فضائها السيبراني، فإنها تواجه تحديات هائلة تتعلق بالتوفيق بين مصالحها الأمنية وضرورة الحفاظ على الحريات الفردية. في النهاية، يبقى السؤال مفتوحًا حول كيفية تحقيق هذا التوازن، وما إذا كانت السيادة السيبرانية ستكون عاملًا لتعزيز الأمن والاستقرار، أم أنها ستصبح أداة لتقييد الحريات وتعزيز السلطوية.

صحيفة الشرق القطرية
السيادة السيبرانية.. تحديات الأمن الوطني في عالم بلا حدود _د. خالد وليد محمود