ياسر أبو هلالة
تمكّنت الحركة الصهيونية، منذ نشأتها، من استيعاب اختلافات اليهود ضمن إطار القومية الصهيونية؛ فحوّلت التباينات الفكرية والثقافية والدينية والاقتصادية والاجتماعية إلى مصدر قوة ثراء وتنوّع. وفي المقابل، نحوّل نحن، ضحايا الصهيونية، وأعداءها، عناصر القوة والتنوّع لدينا إلى عوامل انقسام وضعف، فالفجوة الفكرية، مثلاً، في المشروع الوطني الفلسطيني بين الجبهتين، الشعبية والديمقراطية، وحركتي فتح وحماس، تُقاس بالسنتيمترات، بينما الخلافات داخل الائتلاف الحاكم في إسرائيل يتجاوز كيلومترات.
لو أن العرب عموماً، بمن فيهم "الصهاينة العرب"، يتعلمون أبسط دروس الصهيونية من خلال الاستفادة من درس المعركة على تجنيد الحريديم، فالعلمانيون الصهاينة يبذلون دماءهم في قتال الفلسطينيين والعرب، والمتشدّد الحريدي يرفض، منذ قيام دولة إسرائيل، الخدمة في الجيش، ويكتفي بالصلاة ودراسة التوراة والقيام بالواجبات الشرعية. بالنتيجة، يخوض نتنياهو العلماني معركة سياسية كبرى لحماية حق حرية الحريدي في الإعفاء من الخدمة العسكرية.
ذلك ليس محبة، وأخوة صهيونية، بقدر ما هو انتهازية سياسية، تخدم الدولة وتحافظ على وحدة الحكومة. لا يزال كيان العدو في حال حرب، على جبهات داخلية وخارجية، ونتنياهو يواجه تهديداً في وجوده السياسي، وهو في حاجة لليمين المتشدّد. وقدّم في الأسبوع الجاري مشروع قانون صاغه عضو في حزب الليكود أغضب المعارضة، وحتى بعض أعضاء الائتلاف الحاكم، بحجّة أنه لا يذهب بعيداً بما يكفي لدفع الناس إلى التجنيد. وقد يشكّل ضعف الدعم لمشروع القانون، الذي يهدف إلى تلبية المتطلبات التي وضعتها المحكمة العليا، خطراً على استقرار الائتلاف الحكومي لنتنياهو.
العلمانيون الصهاينة يبذلون دماءهم في قتال الفلسطينيين والعرب، والمتشدّد الحريدي يرفض، منذ قيام دولة إسرائيل، الخدمة في الجيش
المحكمة العليا المفترض أنها تمثل "ضمير الدولة" هي التي رفضت الإعفاء، وبموجب تسوية تعود إلى تأسيس دولة الاحتلال عام 1947، أُعفي الشبّان المنتمون إلى الطائفة الحريدية المتشدّدة دينيّاً من الخدمة العسكرية الإلزامية. وبدلاً من ذلك، يلتحقون بمدرسة دينية (يشيفاه)، وينقطعون لدراسة التوراة والتلمود والفقه. وقد ظل هذا الأمر، إضافة إلى الإعانات الحكومية الكبيرة للحريديم، سبباً لانقسام داخل المجتمع اليهودي الإسرائيلي سنوات، مع تصاعد المطالب بأن يشارك الحريديم أكثر في "تقاسم عبء" الخدمة الوطنية. فجميع المواطنين اليهود في دولة الاحتلال ملزمون بالخدمة عند سن الـ18؛ الرجال مدة تقارب ثلاث سنوات، والنساء يخدمن عامين. ومع الارتفاع الكبير في عدد الحريديم، تجاوز عدد الرجال المُعفَين من الخدمة 80 ألفاً. مع إن الإعفاء في البداية عام 1947 كان يشمل فقط 400، وكانت المحكمة العليا قد اعتبرت عام 2012 هذا الترتيب غير عادل وغير دستوري، وأصدرت، منذ ذلك الحين، عدة قرارات، من دون جدوى، تلزم الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بسنّ قوانين تُجبر مزيداً من الرجال الحريديم على الخدمة. ولم تطالب المحكمة بتجنيد النساء الحريديات.
وبعد أكثر من عامين من الحرب في غزّة، اكتسبت القضية إلحاحاً شعبيّاً أكبر، فالجيش يقول إنه يحتاج آلاف المقاتلين الإضافيين لتأمين جبهات نشطة متعدّدة وتعويض النقص الناتج من القتلى والجرحى، في وقتٍ يُستدعى فيه جنود الاحتياط للخدمة مئات الأيام. وقد بدأت لجنة الخارجية والأمن في الكنيست الأسبوع الجاري مناقشة مشروع القانون الجديد، الذي صاغه رئيس اللجنة، بوعاز بيسموث، عضو حزب نتنياهو، بمساهمة كبيرة من النواب الحريديم. وقال وزير الهجرة والاستيعاب، أوفير سوفير، من حزب الصهيونية الدينية، إنه "عار"، وأعلن أنه سيصوّت ضده حتى لو هدّده نتنياهو بإقالته. وأضاف: "طوال العامين الماضيين، حاولت مراراً التواصل مع القيادة الحريدية. وجدت فجوة ثقافية عميقة… بعضهم تحدّث عن الحاجة إلى التغيير، وللأسف لم يظهر ذلك عملياً. وأصدر حزب الصهيونية الدينية الذي يقوده بتسلئيل سموتريتش بياناً قال فيه إن نوابه "لن يصوّتوا إلا لمشروع قانون يحقق تجنيداً حقيقيّاً".
وصرّح نائبان إضافيان على الأقل من الحزب (وهو حزب محوري في ائتلاف نتنياهو ويمثل جمهوراً دينيّاً يخدم أبناؤه في الجيش) بأنهما سيصوّتان ضد مشروع القانون. كذلك طالب خمسة أعضاء من حزب الليكود نفسه بتعديل القانون، وأشاروا إلى احتمال التصويت ضده، وكذلك فعل فصيلٌ حريدي أكثر تشدّداً، يرفض أي نوع من الخدمة العسكرية. ويثير هذا التمرّد الوليد شكوكاً جدية في قدرة نتنياهو على تمرير الصيغة الحالية من مشروع القانون (يصفه معارضوه بأنه "قانون التهرّب من الخدمة") من دون تغييرات كبيرة. لكن أي تعديلات كبيرة قد تقود إلى معارضة شديدة من الأحزاب الحريدية، وتعرّض الحكومة للخطر. كذلك يشكك محللون في إمكانية صمود الصيغة الحالية أمام اختبار المحكمة العليا، لأنها تتضمّن أهدافاً ضعيفة للتجنيد بين الشبان الحريديم وعقوبات مؤجّلة في حال عدم تحقيق تلك الأهداف.
وكانت الأحزاب الحريدية قد أعلنت استقالتها "اسميّاً" من الائتلاف الصيف الماضي، احتجاجاً على تخفيضات مالية فرضتها المحكمة على مؤسّساتها وعدم وجود حل مناسب لأزمة التجنيد. لكنها، رغم ذلك، لم تتخذ خطوات فعلية لإسقاط الحكومة، لكونها على مدى سنوات ركيزة أساسية في "ائتلافات" نتنياهو. وقد حاول الأخير لأشهر إيجاد صيغة قابلة للاستمرار. وعلى الرغم من السخط الشعبي والبرلماني، ما زال يبدو مصمّماً على تمرير القانون في الأسابيع المقبلة. وكان قد أقال رئيس اللجنة السابق، يولي إدلشتاين، في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، لأنه سعى إلى تشديد القانون، بينما أراد نتنياهو نسخةً أكثر تساهلاً. وفي جلسة اللجنة الاثنين، قال إدلشتاين إن "أهداف مشروع القانون قد تكون أي شيء (يبدو أنها حماية الائتلاف)، لكنها بالتأكيد ليست التجنيد". وأضاف: "تمرير هذا القانون سيضر بالأمن القومي، لأنه لا يعالج الاحتياجات الحادة للجيش". واستمعت اللجنة أيضاً إلى شهادات من أقارب جنود قُتلوا في المعارك خلال الحروب الإقليمية الأخيرة (بما في ذلك الحملات البرية في لبنان وسورية والضفة الغربية المحتلة)، وكذلك من زوجات جنود الاحتياط اللواتي تحدّثن عن انهيار العائلات نتيجة عمليات الاستدعاء الطويلة.
وقال حغاي لوبر، الذي قُتل ابنه في القتال في غزّة، أمام اللجنة الاثنين، إنه صوّت للحكومة الحالية، لكنه هاجم مشروع القانون، لأنه يميّز، كما قال، "بين دم ودم". وأضاف أن أبناءه خدموا في الاحتياط ما مجموعه 900 يوم خلال العامين الماضيين. وقال: "نحن نفعل ذلك لأنه لا يوجد عدد كافٍ من الناس. إن كنت قد وُلدت في القطاع المناسب، فحياتك أكثر أماناً بكثير في دولة إسرائيل".
في دروس 7 أكتوبر، علينا أن نتذكّر هذا الدرس. لقد راهن يحيى السنوار، رحمه الله، وكان خبيراً بالمجتمع الصهيوني وعرفه تماماً خلال فترة السجن، وظل مواكباً له، على انقسام المجتمع الصهيوني، خصوصاً أنه بلغ أوجه قبيل الحرب إلى درجة تمرّد كبار الضباط. ودخل بايدن على خطه، لكن الصهاينة أثبتوا قدرتهم على الاتحاد. وفي المقابل، فلسطينياً نشهد المسخرة المأساة في سلطة رام الله، التي لا تنفك عن تمزيق المشروع الوطني الفلسطيني. وعربياً نشاهد حجم التآمر العلني لا التضامن. هل يتعلم الفلسطينون والعرب الدرس من عدوهم؟
... مع ملاحظة فارق، الأصولية الفلسطينية ممثلةً بحركتي حماس والجهاد الإسلامي، هي من يحمل العبء الأكبر، وتقدّمه هدية غير مستحقة لعجوز المقاطعة المتفرع، كالحريديم، لشعائر السلطة وامتيازاتها.