هشام بو ناصيف
منذ وصل فؤاد شهاب إلى رئاسة الجمهوريّة اللبنانيّة، وجعل من المكتب الثاني دعامة حكمه، تطبع ثابتتان العلاقات المدنيّة – العسكريّة ببلادنا، الأولى أنّ كلّ قائد جيش مرشّح محتمل لرئاسة الجمهوريّة، والثانية أنّ الأجهزة الأمنيّة تتدخّل بالسياسة. وإن كان انتخاب عسكري كرئيس الاستثناء الذي يؤكّد القاعدة في الجمهوريّة الأولى، فقد انقلبت الآية بجمهوريّة الطائف التي وصل إلى رئاستها مدني واحد، ثمّ تعاقب على قصر بعبدا رؤساء كلّهم عسكر. أزعم أنّ هذه القضيّة واحدة من الإشكاليّات الأساسيّة التي تعيق بناء حياة عامّة سليمة في لبنان. تاليًا، أيّ تفكير إصلاحي بالمسألة اللبنانيّة سيضع بالضرورة مسألة العلاقات المدنيّة – العسكريّة بصميمه.
والحال أنّ العلوم السياسيّة كرّست مساحة كبيرة لدراسة العلاقات المدنيّة – العسكريّة بالعقود الأخيرة، منذ كتاب صامويل هانتينغتون الكلاسيكي "العسكري والدولة" الذي صدر عام 1957. حاجج هانتينغتون أنّ الجنديّة مهنة مستقلّة لها قواعدها وأصولها المختلفة عن القواعد والأصول التي تتحكّم بالسياسة، وأنّ الجيش يجب أن يبقى فضاء مستقلًّا غير مسيّس يعطي رأيه فقط عندما تسأله السلطة المدنيّة ذلك في مجال اختصاصه، أي استعمال القوّة، وأنّ شرط الأداء الجيّد للجيش، وللعلاقات المدنيّة – العسكريّة السليمة، هو أن يستوعب العسكر أنّ السلطة العليا عليهم والبلاد تعود للمدنيّين لا للضبّاط، وأنّ الجيش بخدمة الدولة لا العكس. ومنذ صدر كتاب هانتيغنتون (هارفرد)، أشبع بحّاثة كبار كألفرد ستيبان (كولومبيا)، وزولتان باراني (تكساس)، ودايفيد بيون برلين (كاليفورنيا)، ويزيد الصايغ (كارنيغي)، وزينب أبو المجد (اوبرلين)، وسواهم، مسألة العلاقات المدنيّة – العسكريّة درسًا. من المستحيل طبعًا تلخيص ما ذهبوا إليه بمقال، ولكن هناك نتيجة واحدة على الأقلّ تبدو جليّة من دراسات الجميع مفادها أنّ زجّ الجيش بالسياسة يضرّ بأدائه العسكري كآلة متخصّصة بالحرب، وبنوعيّة الحياة السياسيّة التي يتدخّل بها العسكر.
بالنسبة للأداء العسكري، هزيمة الجيوش العربيّة عام 1967 مثل كلاسيكي. حتّى أعداء العرب يقرّون أنّ الجندي العربي عمومًا لم تنقصه الشجاعة ذلك العام. المشكلة كانت بالأداء غير المحترف للضبّاط الذين عيّنهم النظام الناصري في مصر، والبعثي في سوريا، على أساس الولاء السياسي، لا الكفاءة. وبالنسبة لنوعيّة الحياة السياسيّة، يكفي التذكير بالجرائم المشينة التي استسهل جنرالات الحكم العسكري في أميركا اللاتينيّة ارتكابها بحقّ شعوبهم بحجّة "مكافحة الشيوعيّة". نظام بينوشيه في تشيلي يخطر فورًا في البال هنا. وأيضًا جنرالات الأرجنتين الذين انشغلوا عن التدريب والمهنيّة باختطاف المعارضين، وتخديرهم، ثمّ اقتيادهم بالطوّافات العسكريّة لرميهم أحياء في المحيطات ليلقوا حتفهم فيها. حصل ذلك طوال سنوات الحكم العسكري الأرجنتيني التي عرفت عن حقّ بحقبة "الحرب القذرة"، والتي لم تنته الّا وقد قاد العسكر بلادهم إلى هزيمة مذلّة في حرب الفوكلاند بصيف العام 1982. حكم العسكر في الأرجنتين، أو نظام "البروسيسو" كما كان معروفًا، أعاد بشكل شديد المأسويّة تظهير ما ذهب إليه بحّاثة العلوم السياسيّة من أنّ زجّ العسكر بالسياسة ينتج بالضرورة كارثتين محقّقتين أوّلها تراجع احتراف الجيش كآلة متخصّصة بالحرب ضدّ أيّ سلاح يهدّد الدولة، وثانيها ضرب الحريّات العامّة بسبب ضيق صدر الجنرالات بالمعارضين، واستعمال أجهزة الدولة لقمعهم.
ربّ سائل: إن كان الأمر كذلك، فمن أين تأتي شعبيّة العسكر في الدول النامية؟ لماذا تظاهر ملايين المصريّين ضدّ الحكم المدني في بلادهم عام 2013، وأطلقوا حملة "تمرّد" لتحريض العسكر ضدّه (علمًا أنّهم لا يحتاجون لكثير تحريض أصلًا)، ثمّ صفّقوا على وقع أغنية "تسلم الأيادي" للجنرالات الانقلابيّين الذين أعادوا حبس مصر بالسجن العربي الكبير بعد أن خرجت منه لسنتين سبقتا الانقلاب، أو هكذا بدا على الأقلّ؟ الجواب متشعّب. واحد من المعطيات هو هذا: في المجتمعات حيث جذور الثقافة الديمقراطيّة ضعيفة، يتوهّم المواطنون أنّ العسكر بالضرورة أكثر وطنيّة من السياسيّين، وأقلّ فسادًا، وأكثر فعاليّة بسبب تربيتهم "الانضباطيّة" المفترضة. أكتفي هنا بالقول إنّ النتائج الفعليّة لحكم العسكر في الدول النامية، من أميركا اللاتينيّة، إلى أفريقيا، إلى العالم العربي، تنسف هذه الأوهام من أساسها. أغنية "طفّي النور يا بهيّة / كلّ العسكر حرامية" للفنّان المصري محمّد منير لم تأت عن عبث.
بالعودة إلى لبنان، غالبًا ما أقرأ في الصحف أخبار اجتماعات نوّاب وسياسيّين مع قادة أمنيّين كبار. أسأل نفسي: ماذا عند المدنيّين ليقولوا للجنرالات؟ هل المدنيّون خبراء بكيف غيّرت الدرونز ديناميكيّات الحرب المعاصرة، ويرون تاليًا أنّ واجبهم الوطني يقتضي أن يطلعوا القادة الأمنيّين على عميق علمهم؟ الجواب لا، طبعا. هؤلاء ليسوا خبراء بما يفترض أن يكون الشغل الشاغل الوحيد لكبار الضبّاط، عنيت التدريب العسكري المستمرّ. لماذا إذًا هؤلاء زوّار أولئك؟ ما شغلهم معهم؟ الجواب أعطيته في مطلع المقال: أمّا وأنّ الأجهزة لاعب بالسياسة، فهناك من يريد أن يضمن أنّها تلعب لمصلحته. استطرادًا: أمّا وأنّ كلّ قائد جيش مرشّح محتمل للرئاسة، فالعلاقات العامّة مع السياسيّين (والسفارات) ضروريّة للوصول إليها.
وفق هذه المعادلة، الطرفان مستفيدان: الجنرالات الطموحون، والمدنيّون الذين يستسهلون توريطهم بالسياسة. ولكنّ الجيش، كمؤسّسة ينبغي أن تبقى كما قال هانتينغنتون عنها، مستقلّة عن السياسة، ومحترفة، لا يستفيد. ولا نوعيّة الحياة السياسيّة ببلادنا تستفيد.
صحيفة نداء الوطن