التطبيع السوري وسذاجة اللبنانيين _ طوني عيسى


طوني عيسى

بعد المشهد التغييري الهائل في الرياض، أسوأ ما يمكن أن يفعله لبنان هو أن يظن نفسه حكيماً، فيغمض عينيه ويقفل أذنيه وفمه، على طريقة القرود الثلاثة في المنحوتة الشهيرة، ويقول: سارحة والرب راعيها!

يعتقد البعض أنّ لبنان يمكن أن يحصد بعض الإيجابيات إذا سبقته حكومة أحمد الشرع إلى التطبيع مع إسرائيل، بتشجيع سعودي ورعاية أميركية. ويرى أصحاب هذا الرأي أنّ دمشق ربما تضطلع حينذاك بدور إضافي في الوساطة بين لبنان وإسرائيل.
كما أنّ لبنان قد يستفيد من تجربة سوريا، فيراقب مسار التفاوض الذي ستسلكه ومقدار الليونة التي ستبديها إسرائيل، خصوصاً في ما يتعلق بالحدود البحرية أو البرية. ويعتقد هؤلاء أنّ السلام بين سوريا وإسرائيل قد يساهم في تهدئة الأوضاع على الحدود الإسرائيلية مع لبنان، ويقلّل احتمالات التصعيد.
ولكن، كل هذه التوقعات أو الرهانات الإيجابية لا تبدو في محلها. وهي ليست في الواقع سوى تبريرات لعجز لبنان عن اتخاذ قرار في ملف السلام والتطبيع مع إسرائيل، باستثناء رفع الشعار القديم: لبنان هو آخر دولة ستوقّع! وحتى اليوم، لا أحد يعرف: ما السرّ في هذا «الوعد الأبدي»، وما الفائدة منه إذا دخل العرب وكل القوى الإقليمية في مسارات السلام والتطبيع، وهل يجري اليوم درس إيجابياته وسلبياته في شكل دقيق بناءً على المعطيات المستجدة، خصوصاً إذا مشت السعودية به، أم إننا مستسلمون لهذا الشعار لأنّه يؤجّل المشكلة في بلد يعالج كل مشكلاته بالتأجيل؟
وفي أي حال، ما يمكن أن يحصده لبنان من إيجابيات إذا سبقته دمشق إلى السلام والتطبيع، ليست شيئاً يُذكر أمام التداعيات السلبية المؤكّدة. وللتذكير أولاً، إنّ المملكة العربية السعودية التي ستدفع بسوريا نحو اتفاق سلام مع إسرائيل هي الضمان في هذا الشأن. وهي تشترط للموافقة على إقامة التطبيع أن يعترف الإسرائيليون بمبادرة بيروت العربية. وإذا قرّرت المملكة المضي في هذا المسار، فإنّ دولاً عربية وإسلامية عديدة ستحذو حذوها. وهذا يعني أنّ انكفاء لبنان سيؤدي إلى إحكام العزلة الإقليمية عليه، لكونه الدولة الوحيدة التي أبقت نفسها خارج عملية السلام.
وفوق ذلك، سيتعرّض لبنان لضغوط اقتصادية متزايدة، إذ سيتمّ استثناؤه من المشاريع الإقليمية أو الاستثمارات التي ستنتج من اتفاقات السلام الإقليمية. وبديهي أن يزداد الضغط على «حزب الله» وتتأثر بقوة علاقات لبنان بإيران. وسيكون التأثير مباشراً في مسألة تطبيق وقف النار. وفي الدرجة الأولى، سيتمّ انتزاع ورقة مزارع شبعا وقضية اللاجئين من يد لبنان. والأسوأ ه‍و أنّ الدعم العربي والدولي له سيتراجع، إذ يُنظر إليه كطرف معرقل لمسار السلام. كما ستتراجع حظوظه في الحصول على استثمارات، لأنّ المستثمرين الدوليين والإقليميين سيفضّلون سوريا أو دولاً عربية أخرى مصنّفة أكثر أماناً واستقراراً.
كما أنّ الدول العربية التي أقامت علاقات مع إسرائيل، أو ستقيمها لاحقاً، ستقلّل من دعمها للبنان، لأنّه لم يشاركها النهج نفسه. وهذا يعني تهميشه في مشاريع التطبيع الاقتصادي (مثل خطوط الغاز والطاقة والنقل) وقد يتمّ تجنّب إمرارها عبر لبنان ما دام خارج إطار اتفاقات السلام، ما يعزل بيروت اقتصادياً، ويحرمها من إيرادات كبيرة، فيما استمرار التوتر مع إسرائيل يستنزف الاقتصاد اللبناني، إذ يبقى الإنفاق العسكري والأمني مرتفعاً، بينما تنصرف سوريا ودول عربية أخرى إلى مشاريع التنمية الاقتصادية. وليس مستبعداً أن تصبح سوريا وجهة سياحية بديلة من لبنان أحياناً، خصوصاً في ظل أزماته السياسية والأمنية. ولا حاجة هنا إلى الكلام على انعكاس هذا الوضع على القطاع المصرفي الباحث عن جرعة أمل للانتعاش. وقد يتمّ اعتبار المصارف اللبنانية ذات مخاطرة عالية بسبب استمرار الحرب مع إسرائيل، ويفضّل المستثمرون أسواقاً إقليمية أكثر استقراراً.
إذاً، لبنان أمام التحدّي الكبير: يكون دولة حقيقية لها موقعها على بقعة الشرق الأوسط أو لا يكون. وليس نافعاً أن تعمد الحكومة إلى دفن رأسها في الرمال، بل عليها أن تواجه الاستحقاقات بجدّية وجرأة ومسؤولية، وبوعي وطني استثنائي، لأنّ المرحلة لا تتحمّل استمرار نهج المماطلة والتهرّب من الوقائع.
وإذا لم يتخلّ لبنان عن سذاجته ويتعامل مع السيناريو السوري بحنكة استثنائية، فقد يجد نفسه عالقاً في «ذنَب الخيل» العربي، يلهث وراء موقع له لا يعثر عليه، ووسيلة للخروج من عزلة اقتصادية ودبلوماسية خانقة.

صحيفة الجمهورية
التطبيع السوري وسذاجة اللبنانيين _ طوني عيسى