الإخوان وعاصفة الأميركان _ أحمد طه


أحمد طه

أصدر الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمراً تنفيذيّاً في 23 من الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني)، يقضي بدراسة تصنيف فروع جماعة الإخوان المسلمين، في مصر ولبنان والأردن، منظّماتٍ "إرهابيةً أجنبيةً"، ما يفتح الباب لتوقيع عقوبات على الجماعة، مثل تجميد أصولها، ومنع دخول أعضائها إلى الولايات المتحدة. وجاء في البيان أن تلك الفروع تدعم العنف والإرهاب، وحملات زعزعة الاستقرار التي تضرّ بمصالح الولايات المتحدة وحلفائها في الشرق الأوسط. وأصدرت الجماعة (جبهة لندن التابعة لجناح صلاح عبد الحقّ) بياناً في موقعها "إخوان سايت"، أعلنت فيه رفضها القاطع خطوة ترامب، وقالت إن حكومات ديمقراطيّة عديدة رفضت من قبل مثل تلك المقترحات، وتوصّلت إلى أن تصنيف "الإخوان المسلمين" جماعة إرهابية، أمر منفصل تماماً عن الواقع، وغير مدعوم بأيّ أدلّة، وأكّد البيان أن هذه الخطوة تنطوي على دوافع سياسيّة، ولا تقوم على أيّ أساس قانوني، ولا تخدم مصالح الشعب الأميركي، وأنها ناتجة من ضغوطٍ مارستها كلٌّ من إسرائيل والإمارات. اللافت تأكيد البيان أن الجماعة لا تملك أيَّ تنظيم، أو فرع، أو تمثيل داخل الولايات المتحدة، وأن الجماعة ليس لها أيَّ ارتباط تنظيمي، أو مالي مع أيّ كيان في أميركا الشمالية.

ليست خطوة ترامب لتصنيف الإخوان ضمن الجماعات الإرهابية الأولى، فقد سبقتها خطوة مشابهة لم تكتمل من الجمهوريين منذ عشرة أعوام، لكنّ الأمر هذه المرّة يبدو مختلفاً، فإذا ما مضت الإجراءات وطُبّق الأمر بصورة كاملة، فمن المُتوقَّع أن تكون له تداعيات كبيرة وآثار خطيرة، وقد تكون خطوة تتبعها خطوات مماثلة في دول غربية أخرى، مع تصاعد موجة المدّ اليميني المعادية للمهاجرين في الغرب، بالتزامن مع ظاهرة "الإسلاموفوبيا" الآخذة في التمدّد والانتشار، وهو ما يضفي مزيداً من التعقيد على الأزمة العاصفة التي تمرّ بها الجماعة، بعدما جرى حظرها في عدّة دول عربية في السنوات الماضية، وهو ما يعني اجتماع البُعدين الإقليمي والدولي في أزمتها.

بدا واضحاً أن بيان الجماعة غلب عليه طابع الارتباك وعدم الاتساق، والرغبة في المُهادنة، وكان جلَّ همّه دفع الاتهام عن الجماعة، مع عرض يبدو غريباً لإبداء التعاون بـ"المشاركة البنّاءة" مع الإدارة الأميركية، من دون تحديد جوانب هذه "المشاركة"، ولم يكن مفهوماً تصدير البيان بصورة لترامب، كما أن نفي البيان القاطع لأيّ وجود تنظيمي أو مالي للجماعة في قارّة أميركا الشمالية، بهدف سلب الإدارة الأميركية أيَّ ذريعة لملاحقتها أو تصنيفها إرهابيةً، يقول ضمنيّاً (بمفهوم المخالفة) إن وجود تنظيم سرّي يقوم على فكرة "المجتمع الموازي" في أيّ دولة أخرى، بما فيها الدول العربية، يمنح الحقَّ لسلطاتها في ملاحقتها، وهو تناقض عجيب يخلو من أيّ منطق.

المشهد الجديد في أزمة الجماعة يستدعي بعض مشاهد سابقة، وقعت خلال السنوات الماضية دلالاتها جديرة بالنظر، عن طريقة قيادة الجماعة في التعاطي مع أزمتها المُعقَّدة، ففي أغسطس/ آب 2019 ثار جدل كبير في الفضاء الإخواني في أعقاب ظهور رسالة من مجموعة من شباب "الإخوان" المحبوسين، يزيد عددهم على 1300 شاب، موجّهة إلى قيادة الجماعة، تضمنّت شرحاً لأوضاعهم الصعبة ومعاناتهم داخل السجون، فضلاً عن معاناة أهليهم خارجها، كما حملت مطالبةً صريحةً، أقرب ما تكون إلى الاستغاثة، بقيادة الجماعة من أجل إيجاد مخرجٍ للأزمة، وحلٍّ من شأنه وضع حدٍّ لمعاناتهم المستمرّة منذ سنوات من دون أيّ مردود، أو مخرج يلوح في الأمد المنظور.

إثر ظهور الرسالة، اندلع في المجال الإعلامي والفضاء الافتراضي جدلٌ ساخنٌ، فجاءت ردّة فعل قيادة الجماعة في الخارج (جبهة إبراهيم منير وطلعت فهمي) مفاجئة، بالتشكيك في صحّة الرسالة وتوقيتها ومضمونها وكيفية خروجها إلى العلن، لدرجة وصفها بأنها "رسالة أمنية بامتياز"، أمّا الأدهى فهو قول الراحل إبراهيم منير عن هؤلاء الشباب: "نحن لم نُدخلهم السجن، ولم نُجبرهم على الانضمام إلى جماعة الإخوان المسلمين، ومن أراد منهم أن يتبرّأ من الإخوان فليفعل" (!).

جاء هذا بالتزامن مع تصدير خطاب مغلق في الفضاء الإخواني، يقوم على مصطلحاتٍ، مثل الثبات، والصمود، والتشبّث بلزوم الحقّ وأهله، فضلاً عن استدعاء وقائع تاريخية ذات طابعٍ ملحميٍّ مثل "أصحاب الأخدود". وفي ربيع العام 2022 احتفلت جماعة الإخوان المسلمين بالذكرى 94 لتأسيسها، باحتفالَيْن مختلفَيْن، في بلدَيْن مختلفَيْن، بشعارَيْن مختلفَيْن، فقد أقامت جبهة إسطنبول (جناح محمود حسين) احتفالاً مُوسّعاً في قاعة بلدية زيتون برونو تحت شعار "أصالة واستمرارية"، فيما أقامت جبهة لندن احتفالاً مُصغًّراً تحت شعار "اعتزاز بالمنهج وتجديد للعهد"، والمفارقة الطريفة أن الجبهتَيْن كلتيهما وجّهتا رسالتَيْن إلى أنصارهما، لمطالبتهم بالتماسك وتوحيد الصفّ خلف كلٍّ منهما، والابتعاد عن الجبهة الأخرى، حتى لا ينفرط عقد الجماعة(!).

يبدو واضحاً من المشاهد المتتابعة، للأزمة الممتدّة مُتعدِّدة الأبعاد التي تمرّ بها جماعة الإخوان المسلمين، أن قيادتها (بجناحيها المُتصارعَيْن) تتعامل بقدرٍ غير خافٍ من الاستخفاف والاستهانة مع فصول الأزمة، التي تختلف تماماً عن كلِّ الأزمات التي مرّت بها الجماعة طوال العقود الماضية، وصارت مُركّبة ثلاثية الأبعاد، محليّاً وإقليميّاً ودوليّاً، كما أن تلك القيادة لا تعي جيّداً المخاطر المتنوّعة المُحدقة بالجماعة، فقد فشلت قيادة الجماعة في إيجاد حلّ لأزمتها الطويلة مع الدولة المصرية، وفشلت أيضاً في وضع حدٍّ لمعاناة أتباعها الذين تضيع أعمارهم سدىً في السجون من دون غاية أو هدف، وتعاملت مع استغاثاتهم بعدم اكتراث، كما أن الحصار الإقليمي عليها تزداد حلقاته استحكاماً، ويوشك أن يُطبق على رقبة الجماعة ويخنقها خنقاً ويُجهز عليها، بعدما أُضيف إليه البُعد الدولي، فالخطوة الأميركية أخيراً شديدة الخطورة، فالجماعة على مرمى حجر من وضعها ضمن الجماعات الإرهابية على يد إدارة ترامب، وهو أمر ستكون له عواقب وخيمة للغاية على الجماعة وداعميها، وعلى كلِّ المُرتبطين بها، ولن يجدي معه استدعاء كلِّ المخزون العاطفي القديم، من المظلومية التاريخية، القائمة على الخطاب "المحنوي" البائس الذي دأبت القيادة على تصديره طوال السنوات الماضية، مثل ثبات أهل الحقّ في مواجهة الباطل، والصمود في وجه الحرب على الإسلام، إلى آخر تلك المعزوفة المملولة التي لم تكن يوماً جزءاً من أيّ حلّ.

في الأحوال كلّها، يظلّ الأمر المُؤكَّد، الذي تجهله قيادة الجماعة، وكثير من أتباعها الذين يرون أن الجماعة "الربّانية" باقية ما طلعت الشمس وما تعاقب الليل والنهار، أن استمرار الجماعة بصيغتها القديمة، وخطابها العتيق، أمسى ضرباً من المستحيل، وأنها تحتاج إلى مراجعة جذريّة لكلِّ الأفكار التي قامت عليها منذ نحو قرن، بعدما تجاوزها العصر، وأصابها التيبّس والجمود، وتحوّلت في نظر بعضهم مُسلّماتٍ قطعيّةً لا تقبل النقاش، بل إنها في بعض الأحيان تحوّلت مُقدَّساتٍ لا يجوز الاقتراب منها، فالقاعدة التاريخية تقول إن أيَّ كيان فكري أو سياسي، يخرج في سياق تاريخي معيّن، له وظيفة ينشأ من أجلها، قد ينجح في القيام بها، وقد يخفق جزئياً أو كلّياً في أداء مهمّته التي كلَّف نفسه بها، ومع تغيّر معطيات السياق العام بصورة كلّية، المصحوب بالإخفاقات المتلاحقة في تحقيق أيّ هدف، إن لم يقم هذا الكيان بمراجعة أفكاره وتجديد صيغته القديمة، فإنّه يصير عُرضةً للذبول ثمّ الأفول، فالكيانات لها أعمار، والأفكار لها آجال... ولكلِّ أجلٍ كتاب.

العربي الجديد
الإخوان وعاصفة الأميركان _ أحمد طه