عمر المرابط
لم يهدأ بعد الجدل الذي أحدثته صحيفة لو فيغارو الفرنسية بعد تسريبها مقتطفات من التقرير السرّي "الإخوان المسلمون والإسلام السياسي في فرنسا"، واصفةً إياه بـ"التقرير الصادم عن الإخوان المسلمين، الذين يريدون تطبيق الشريعة في فرنسا"، ما دفع الرئيس إيمانويل ماكرون إلى عقد جلسة طارئة لمجلس الدفاع والأمن الوطني، في 21 مايو/ أيار الجاري، لمناقشة التقرير واتخاذ القرارات اللازمة بالنظر إلى خطورة محتواه، قبل أن يقرّر تأجيل الأمر متهماً وزير داخليته برونو روتايو (ظهر في الإعلام مندّداً بـ"التهديد" الذي يشكّله "تغلغل" جماعة الإخوان التي تهدف إلى "تحويل المجتمع الفرنسي بأكمله إلى الشريعة الإسلامية") بافتعال التسريب واستعماله مطيّةً للوصول إلى رئاسة حزب الجمهوريين المنجذب نحو أطروحات اليمين المتطرّف.
لسحب البساط من وزير داخليته الذي ظهر كأنّه بطل قومي اكتشف مؤامرةً تحاك ضدّ الوطن، أمر ماكرون برفع السرّية عن التقرير، معللاً خطوته تلك برغبته في فتح نقاش مستنير وشفّاف في الموضوع، متحدّثاً عن ظاهرة التغلغل، محذّراً من تغليب نظرية المؤامرة. كتب التقرير موظّفَين ساميين (لم يذكرهما التقرير) بطلب من وزير الداخلية السابق، وهما السفير كريستيان نخلة (كان سفيراً في دول عربية عدّة) والوالي بيير انجاهان. والاثنان غير متخصّصين لا في الإسلام، ولا في حركات الإسلام السياسي. ومن ثمّ، نجد في التقرير خلطاً بين التيّارات وتنوّعاتها واختلافاتها وتناقضاتها، فضلاً عن خصوصياتها، من دون تمييز علمي واضح، فضلاً عن اعتماده الظاهر على كتابات كاتبة معروفة بتطرّفها وهجانتها المنهجية، فتدمج بين التيّارات السلفية وحركة الإخوان المسلمين، فتُصوّرهما تارةً حليفَين في مشروع واحد، وتارةً تيارَين متضادّين متنافسين، حتى إن صحيفة لوموند الفرنسية اعتبرته، في عددها الصادر بتاريخ 23 مايو/ أيار الجاري، امتداداً مباشراً لأطروحات منحازة أيديولوجياً في قراءتها الواقع الإسلامي الفرنسي، بل تقول الصحيفة إن الطابع العام للتقرير مستوحى إلى حدّ كبير من مقاربة دولة عربية تشنّ حرباً مهووسة ضدّ "الإخوان" في مختلف أنحاء العالم.
يبدو أن هذا الخلط المقصود جاء لتبرير خلاصات جاهزة تتعارض بوضوح مع خلاصات العديد من الأبحاث الأكاديمية المتخصّصة التي أنجزها باحثون مشهود لهم بالكفاءة والنزاهة الفكرية والحياد العلمي، وبعملهم الأكاديمي المتميّز غير المتحيّز، الذين يميّزون بين التيّارات والحركات الفكرية والتنظيمية، بل يناقض أيضاً أقوال متخصّصين على منوال برنار غودار، رجل المخابرات والمسؤول السابق في وزارة الداخلية عن ملفّ الدين الإسلامي (2002 - 2015)، الذي قال إنه لا توجد لدى الإخوان أيّ خطّة لأسلمة فرنسا.
اعتمد التقرير على غموض المفاهيم والمصطلحات للانتقال بالقارئ إلى إدانة الإخوان المسلمين انطلاقاً من بعض ممارسات التيّار السلفي المعروف بتغليبه ظاهر النصّ على مقاصده. وهكذا، يتحدّث التقرير، في كثير من فقراته، عن بعض ممارسات التيّار السلفي، واصفاً إياها بأنها بالرغم من أنها سلفية الملامح والخطاب، فإنها إخوانية الأسلوب، ضارباً عُرْض الحائط بالتمايز الكبير بين التيّارين شكلاً ومضموناً.
بيد أن التقرير، ومع إقراره (ولو بتحفّظ) بأن القراءة المقاصدية للنصوص التي يتبنّاها "الإخوان" تتوافق، إلى حدّ كبير، مع مقتضيات الحياة في المجتمعات الغربية من خلال اعتمادهم فقه الأقلّيات الذي يتيح التكيّف مع الواقع من دون تفريط في الأصول، فإنه لا يتوانى عن تأويل هذا التكيّف بوصفه نوعاً من النفاق أو "التقيّة" المقصودة، ويربط توقيع مسلمي فرنسا على "ميثاق المبادئ من أجل إسلام فرنسا"، المناهض للانفصالية، بالخوف من السلطات لا غير.
علاوة على هذا، ينتهج التقرير أسلوب التضخيم والتهويل، ويعتمد خطاب التخويف والترهيب، رغم اعترافه بتراجع تأثير جماعة الإخوان المسلمين دولياً، وفي فرنسا خصوصاً، فهو يشير إلى أن "جمعية مسلمي فرنسا" تدّعي أنها لا تمثّل سوى 1.89% من أصل 2800 جمعية دينية، ثمّ يرفع النسبة إلى 5%، ثمّ إلى 7%، بإدخال تقديرات أخرى. كذا الشأن عندما يتحدّث عن نشطاء الجمعية، الذين يُقدَر عددهم بين 400 و1000 شخص حدّاً أقصى، أيّ بنسبة لا تتعدّى 0.014% من أصل سبعة ملايين مسلم، من دون أن يحدّثنا عن خطر هؤلاء أو ضلوعهم مثلاً في أعمال تخريبية أو إرهابية. وبدلاً من قراءة هذه الأرقام دليلاً على هامشية التنظيم، يوظّفها التقرير لترسيخ خطاب الخطر الكامن والاختراق الخفي، في انحراف واضح عن التحليل الرصين نحو مقاربة أمنية مثقلة بالارتياب والشك والاتهام، أكثر منها مبنيةً على منطق الحجّة والدليل والبرهان.
كما يتناول التقرير أيضاً مسألة التغلغل المالي، ويُخبرنا بميزانية الجمعية التي تناهز نصف مليون يورو سنوياً، كما يحدّثنا عن تمويلات خارجية معطياً مثالاً المركز الإسلامي بمدينة فيلنوف داسك، شمالي فرنسا، الذي تموّله الكويت وقطر والسعودية ومصر. وهنا، يتساءل المراقب كيف لبعض الدول التي تحارب "الإخوان" أن تموّل جمعية تابعة لهم
يستعمل التقرير توصيفَين متعارضَين لوصف الظاهرة نفسها، فتجده تارّة يتحدّث عن "الانفصالية الإسلاموية"، وتارة أخرى عن "التغلغل الإسلاموي"، لكن كيف لمن اختار طريقة الانفصالية والانعزالية، والنأي بنفسه عن المجتمع وعن الانخراط والتأقلم مع مكوناته، أن يستطيع التسلّل والتغلغل والتوغّل والتغوّل داخل المجتمع نفسه، والارتقاء في هياكله الاجتماعية والسياسية مرشّحاً ومنتخَباً في البلديات؟... سؤال يوحي بانحياز التقرير وانزياحه إلى التفزيع، خاصّة عندما يعزو "وجود خطر على التماسك الوطني" إلى "صعود الإسلاموية في البلديات، ويتحمّل الإخوان مسؤوليتها التاريخية والحالية".
التطرّف موجود، ونحن نراه ونسمعه كلّ يوم في كلّ مكان، وبين الأديان كلّها، ومن واجب الدول مناهضته ومحاربته، لكن عوض وضع الإصبع على الداء واقتراح الدواء، خرج علينا هذا التقرير الذي خلط الحابل بالنابل، وجعله كثيرون مطيّةً لوسم كلّ المسلمين بالتطرّف، باعتبار كلّ فرد منهم إسلامياً أو إخوانياً محتملاً، ومحلّ شبهة وريبة. لقد استُغل واستعمل بشكل متعمّد وبطريقة انتقائية ومجتزأة، تعكس توجّهاً مغرضاً يتجاوز حدود التحليل الموضوعي، ويدخل في دائرة التوظيف السياسي والأمني المكشوف، فعكس تصريحات وزير الداخلية ومانشيت لوفيغارو المذكورة آنفاً، يؤكّد التقرير أنه "لا توجد أيّ وثيقة حديثة تثبت رغبة جمعية مسلمي فرنسا في إقامة دولة إسلامية في فرنسا أو تطبيق الشريعة"، بل إنه يتمنّى "على بقية المجتمع تقبل الإسلام ديناً فرنسياً، وهو لربما أوّل الأديان ممارسةً، وهو في هذا الصدد يستحق الاعتبار". قول ممتاز لكنّه بقي في الهامش مع المهمّشين.
العربي الجديد