الأنظار إلى مصر لوقف الدوّامة الجنونية _ محمود الريماوي


محمود الريماوي

استوقف مراقبين وصف الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، في خطابه أمام القمّة العربية الإسلامية في الدوحة الاثنين، دولة الاحتلال بـ "العدو"، إذ قال في ختام كلمته: "يجب أن تغير مواقفُنا من نظرة العدو نحونا، ليرى أن أي دولة عربية؛ مساحتها ممتدّة من المحيط إلى الخليج، ومظلتها متسعة لكل الدول الإسلامية والدول المحبة للسلام. وهذه النظرة كي تتغير، فهي تتطلب قرارات وتوصيات قوية، والعمل على تنفيذها بإخلاصٍ ونيّةٍ صادقة، حتى يرتدع كل باغٍ، ويتحسّب أي مغامر" . وقد كان من المنطقي أن يطلق الرئيس المصري هذا الوصف على من يواظب على شنّ الاعتداءات والتعدّيات المرفوقة بغطرسة شديدة، وعلى من يخوض حرب إبادة لا يريد لها أن تتوقف إلا بتهجير الشطر الأكبر من أصحاب الأرض. ومغزى ذلك أن سياق الخطاب واكب سياق الجرائم الكبرى التي تتزايد، وجاء ردّاً عليها، ولم يكن ممكناً وصف المعتدي والقاتل والمنتشي بالقوة الغاشمة، بغير ما هو عليه، فهل كان ممكناً وصف الذئب الإسرائيلي المنفلت بالجار أو الشريك في السلام أو بوصف محايد كـ"الطرف الآخر"، وفي ظرف لا يستقيم به الحياد؟

وفي واقع الحال، الخطاب الذي يمثل أكبر دولة عربية، وهي الدولة المتاخمة لقطاع غزّة، يستشعر بوضوح الحاجة الراهنة للتعامل بنجاعة واقتدار مع التحدّي الإسرائيلي، بعدما بات جلياً أن خيار الحرب هو ما يحكم سلوك حكومة بنيامين نتنياهو، وأنه لا مكان للسلام في أجندة هذا اليميني المفرط في تطرّفه وتوحّشه، وأن الأمن الجماعي العربي بات مهدّداً، وأن مجريات التطوّرات، وكذلك التوجّهات المعلنة، تنبئ بمزيد من التهديدات، ما لم يتم إيقاف ذلك الشخص المسعور في تل أبيب عند حدّه. ومن الطبيعي أن تكون القاهرة، وهي مركز للعالم العربي في قلب معادلة تصحيح الموازين، وفي مقدمة الفاعلين. ويربط الخطاب الفاعلية المنشودة والممكنة بوحدة الموقف العربي وآلية تنسيق عربية وإسلامية و"إلى توافق عربي وإسلامي، علـى إطـار حاكـم للأمن والتعاون الإقليميين، ووضع الآليات التنفيذية اللازمة، للتعامل مع الظرف الدقيق الذى نعيشه". وتستجيب هذه الرؤية لتطلعات الشعوب وحقوقها، وتكفل سيادة الدول وحدودها. والرسالة التي يسع كل من يعنيه الأمر استخلاصها، أنه إذا كان هناك من دور أكبر مُنتظر من أرض الكنانة في هذا الظرف، فإنه لا بد من مظلة دعم عربي وإسلامي لمصر، دعم متعدّد الأوجه ينهض الجميع فيه بأداء أدوارهم بتوجيه ضغوط سياسية واقتصادية وقانونية نحو الطرف المعتدي، ودعم مصر في مواصلة دورها القيادي، بكل أوجه الدعم المتاحة وهي كثيرة.

ومع الإقرار برشد هذا التوجه وسلامته، فإن التحدّي القائم لا يتمثل فقط بتهديد مستقبل دولنا وشعوبنا، بل إنه يتعلّق بحاضرنا وبواقعنا الراهن، ويتصل بيوم الناس هذا. وليس بالمقبل من الأيام فحسب، بما لا يُفسح المجال أمام انتظار بروز توافقات كبيرة وعريضة، وذات طابع استراتيجي بعيد المدى، فالطرف المعتدي يباشر، بلا انقطاع، مجازره بحقّ المدنيين في قطاع غزّة، ويدفعهم تحت وابل النيران الكثيفة إلى جنوب القطاع، وعلى مقربة من الحدود مع مصر، الأمر الذي يتطلب الشروع في إجراءات حازمة وعاجلة، ويقيناً أن مثل هذه الإجراءات سوف تلقى أكبرتفهّم في أرجاء العالم، وسوف تجتذب أكبر تأييد في العالمين العربي والإسلامي. ونستذكر خلال العقدين الماضيين أن مصر خلال الحروب على غزّة كانت تقوم من جهة بدور الوسيط، وتؤدّي، من جهة ثانية، دوراً سياسيّاً حازما لوقف الحرب، وهو ما نجحت به القاهرة على الدوام متمتّعة بدعم عربي كبير. والحرب الحالية هي الأدعى إلى التصدّي لها، فالجانب العسكري ضئيلٌ فيها، فيما القوة النارية الرئيسية تتجه إلى المدنيين والمرافق المدنية بلا استثناء، وبعماء أخلاقي لا تظير له، إلا في حرب رواندا كما ذكرت محققة أممية أخيراً، أو كما جرى في بعض فصول حرب البلقان أواخر القرن الماضي. ولا يُعقل في هذه الظرف الخطير ترك نحو مليوني غزّي بين خيارين: الإبادة أو التهجير، فالصائب، وما يفرضه واقع الحال من أولويات، وقف الإبادة بصورة تامة مقدّمة لا بد منها لمنع التهجير. علما أنه لم يعد هناك متّسع من الوقت للانتظار أو التأجيل، فالمحنة أصبحت ملحمية، وقودها البشر الأبرياء، وتصدم كل صاحب حسٍّ سليم، وما يتوقع حدوثه في الغد سوف يكون أسوأ مما يحدُث اليوم، فيما تجتاح الهستيريا الائتلاف المتطرّف في تل أبيب، حيث يجري الحديث عن دولة توسّعية وفق نموذج إسبارطة ترهب الجميع الأقربين والأبعدين.

لقد آن أوان استخدام الأوراق المصرية بحكمة وحزم، دفاعا عن سيادة مصر وحدودها، وعن أمنها القومي ومستقبل أجيالها، ونصرة لشعبٍ شقيقٍ، لطالما أبدى قادته وممثلوه استعدادهم لسلام عادل كريم. ومن حقّ مصر أن ترفض تقدّم الاحتلال نحو حدودها، وأن تعمل على دفعه إلى الوراء، باعتباره قوة غاشمة وغير شرعية، و"بما يضمن عدم الانزلاق إلى مزيدٍ من الفوضى والصراعات، والحيلولة دون فرض ترتيبات إقليمية، تتعارض مع مصالحنا ورؤيتنا المشتركة". كما ورد في خطاب الرئيس السيسي. وبعدما تبين أن سياسة الانضباط والتريّث، قد تمت إساءة النظر إليها، وكذلك التركيز التام على الجهد السياسي والدبلوماسي، مما لم يكبح في النتيجة جموح المعتدي، بل زاده صلفاً ووحشية، وهو ما يستدعي وقفة سريعة مع الذات، لوقف الخلل القائم وتصحيح المعادلات، مع ما يتطلبه ذلك من مبادراتٍ ملموسة لوقف هذه الدوامة المجنونة، وكي تستيقظ حكومة نتنياهو وتدرك فداحة ما تفعله وسوءه، وكي تعي أن أرض غزّة عربية فلسطينية، وأن تقرير مصيرها مسؤولية عربية وفلسطينية في المقامين، الأول والأخير، وأن معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية لا تبيح لتل أبيب احتلال أرض عربية مجاورة لمصر، أو التقدّم نحو البوابة الشرقية لمصر، أو اقتلاع الشعب صاحب الأرض ودفعه نحو مصر، فالبربرية ليست حلاً بل نقيصة وجريمة.

العربي الجديد
الأنظار إلى مصر لوقف الدوّامة الجنونية _ محمود الريماوي