إسرائيل، بعد طوفان الأقصى ومضاعفاته وتداعياته، كيان يواجه الراهن في كل صعده ومستوياته وضغوطاته، لأنها بلغت شأوا من الانفلات والخروج عن القانون والأخلاق وكل الضوابط، بالقدر الذي تستهتر فيه بالقيم الإنسانية كافة، بل لا تعرف من الإنسانية إلا العبث والعنف المنفلت من عقاله، والإرهاب المطلق عندما تمارسه المؤسسات بالأصالة عن الدولة أو بالوكالة عنها.
حقيقة قوة الراهن الذي يعمل لغير صالح إسرائيل والغرب في المنطقة العربية، هو مع مزيد من الكشف والشفافية والوضوح، يزيد تراجع وانكماش الكيان العِبْري وأفول وجوده بالتدريج. فقد تطورت وسائل الكشف وزادت إرادة المقاومة، إلى حد أن المعلومات والمعطيات لم تعد تحتكرها دولة الاحتلال، فقد عاشت هذه الأخيرة عقودا من الدهر الفاسد، على صُوَر وأخبار ومعلومات وتقديرات مزيفة، كجزء من كسب انتصارات خادعة، تنتظر السياق المناسب للكشف عنها ودحضها، على ما نلاحظ ونعاين في سياق طوفان الأقصى ومتوالياته على صعيد المنطقة والعالم في آن معا، دون فواصل زمنية، بل بتلقائية وفورية مباشرة.
قوة الراهن القاتل لإسرائيل هو، حاصل مجموع كل المجازر والاعتداءات والحروب والمعارك التي ارتكبها الاحتلال في الأرض الفلسطينية. فالراهن هو الزمن الذي يجب ألا يترك الشاذ يمر، لأنه بَلغ مستوى خطيرا على العالم كله، وليس على المنطقة العربية فقط. فعندما يفترض أن كيانا عضوا في هيئة الأمم المتحدة، يخرج على الجميع بعُقُوقه واستِخْفافه بالمؤسسات الدولية، واستهتاره الفج بالأخلاق والأعراف، فالأمر يستدعى يقظة الجميع لهذا الخطر الداهم، لأن الوقت متوقف على الراهن، الذي لا يريد أن يمر لأنه من طبيعة معاصرة للحدث.
فإسرائيل الكيان الاستثنائي، ارتكب مجازر تفوق تلك التي ارتكبها الزعيم الألماني أدولف هتلر في حق اليهود إبان الحرب العالمية الثانية ومجرياتها. وعليه، أو هكذا يجب أن نحلل ونقدر الموقف الراهن في المنطقة العربية، وما يعانيه الشعب الفلسطيني، إن الإعدامات على الهوية والحرب ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، هي أعنف بما لا يقاس من المحنة التاريخية التي تعرض لها اليهود في وقتنا المعاصر، أي سجل الأحداث والوقائع المقيدة، ولم يكشف عنها العدو الجديد في المنطقة العربية، وآلت إلى الزمن الراهن، حيث لا يلبث أن يظهرها من حين الى آخر، بل تظهر توّاً مع مشاهد وصور الرُّعب الشامل في غزة الشهيدة.
وهنا الصراع المميت والقاتل لإسرائيل/ الغرب مع بقية العالم، والأزمة المستعصية على الحل. فالمثال الذي تقدمه إسرائيل لم يعد صالحا، لأن سبب وجودها الأصلي صار مفضوحا، وهو الظلم الذي تعرضت له من الغرب الأوروبي. ولأن إسرائيل ترتكب ما يفوق ما عانته، تصبح كل الاعتبارات والمبررات التي استندت إليها بدعم أوروبي وأمريكي غير مبررة لدى أصحابها الفاعلين والمسؤولين عليها في المنطقة وفي العالم، ويجب أن يبادروا على تحملّه تفاديا لكارثة عالمية أخرى، إرهاصاتها متوفرة بشكل واضح، لعّل قدوم دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في يناير المقبل أحد علاماتها البارزة.
تتمثّل قوة الراهن في قدرتها على تُوقِيف الزمن الحاضر، ولا تتركه يمر لأنه استقطب اللحظة كلها، بما في ذلك الماضي أيضا، ومن ثم، فالصُّور التي تُظهر المحرقة والإبادة الجماعية لليهود واضطهادهم أثناء الحرب العالمية الثانية متوفرة وصارت معاصرة.
في الوقت ذاته مع المشاهد والصور الواردة من قطاع غزة، ويتأكد الجميع في زمن واحد أن ما يرتكبه الكيان العِبري في حق الفلسطينيين، يفوق ما ارْتُكب في حقهم خلال الحرب العالمية الثانية، لأن في القانون والأخلاق والأعراف المعقولة لا يمكن استبطان التناقض في جوف مؤسسة عالمية واحدة، ونقصد بطبيعة الحال العقوق والانفلات وقلة الأدب والأخلاق التي تبديها إسرائيل اليوم حيال الأمم المتحدة، والانسياق الأمريكي الرهيب معها في العربدة والعبث والاستهتار بمصائر الشعوب والأمم، ولعلّ التناقض الصارخ هو مباركة مذكرة توقيف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رئيس دولة عضو في مجلس الأمن الأممي، والتحفظ والتنكر للقرار ذاته الذي صدر في حق صهيوني آثم اسمه بنيامين نتنياهو رئيس وزراء كيان إرهابي يمارس الميز العنصري، «شرعيته» قائمة على الاضطهاد والحروب والعدوان المتواصل.
في الزمن الراهن، على ما تجاوب معه طوفان الأقصى، يظهر من جملة ما يظهر الحقائق التي كان يطمسها الاستعمار في شكله التقليدي، وفي شكله الإسرائيلي الفائق، الذي يستفيد من تكنولوجيا أمريكا والدول الغربية.
لم يعد هناك ما يمكن التستر عليه وإخفاؤه، بل كل شيء ظاهر وواضح للعيان، وأن هذا الوضع تدفع ثمنه المقاومة الفلسطينية، باسم كل الأمم في العالم لأن المعضلة التاريخية التي ارتكبها النظام الاستعماري كانت في أرض عربية اسمها فلسطين منذ أكثر من سبعين سنة.
والمعضلة كما يكشفها الزمن الراهن هي بقاء الاستعمار في غير عصره، ممثلا في كيان عِبري، انكفائي، عنصري، فاشي وغاشم، يكثف كل الخصائص الفاسدة ويستبطنها في جوفه كأفضل سبيل للبقاء والنجاة بالنفس. فقد تمت الورطة، ولم يتمكن الغرب الصهيوني من حلها، وتسبب في إلحاق الظلم باليهود مرّتين، مرة بحرقهم، ومرة في توريطهم في احتلال أرض غير أرضهم، يعمل الزمن الراهن على كشفها وفضحها للعيان وعلى الملأ العام.
نحن اليوم في لحظة راهنة بكل ما تحمل من عمق وأبعاد زمنية، نحضر فيها لانفلات كيان عن المنظومة الأممية والقانون الدولي وأعراف الدبلوماسية العادية ومبادئ العدالة على ما يفهمها الجميع. فالاستثناء الإسرائيلي يصنع حالة من العجز العالمي، تدفع ثمنه الباهظ جدّا المقاومة الفلسطينية في أرض عربية تسجل أعنف فعل يمكن أن يرتكبه بشر، وأفظع إرهاب يمكن أن يرتكبه كيان سياسي عسكري.
اللحظة الراهنة أوقفت الزمن وصارت تلح على ضرورة حل المسألة الفلسطينية
الظلم الذي يتعرض له الفلسطينيون هو عنف مضاعف متعلق بالمنطقة، وبالعالم في الوقت ذاته، لأن اللحظة الراهنة أوقفت الزمن وصارت تلح على ضرورة حل المسألة الفلسطينية رحمة بالعالم كله، وليس بالشعب العربي في فلسطين وحسب. فقد تقدم الورم السرطاني العِبْري في الجسد الدولي، وأضحى باديا للعيان بالنسبة لمن يحسن النظر والتحليل، ولم يعد الأمر يعني سكان غزة فقط، بل الإنسان حيثما كان والدولة حيثما وجدت، لأن الشاذ والاستثناء والمروق والعنف والإرهاب طال مكوثه في السجل الإسرائيلي/ الغربي وتعفن من فرط المراوحة في اللحظة الراهنة، الأمر الذي يستوجب تدخل الأمم والدول والمؤسسات والهيئات كافة، لأن الخطر يداهم جميع الناس في معمورة الكوكب كله.
تلك هي الحالة الإسرائيلية في اللحظة الراهنة التي تكشف عن كل شيء وقع في التاريخ المعاصر، فما يجري اليوم في غزة نراه فورا في بداية تاريخ الاحتلال ومتوالياته لأكثر من سبعين سنة.. كله عنف ودمار وخراب وإرهاب، إلى حد اعتبار إسرائيل ليس كيانا محتلا للأرض الفلسطينية فحسب، بل كيانا ينَظِّر للعنف ولا ينتظر منه العالم المقبل إلا العنف. إسرائيل كينونة يهودية أرادها نتنياهو بلا مضمون إنساني، خارج القانون، لا يعرف لها لا دستور ولا حدود..
القدس العربي