وائل قنديل
مشهدان هما الأصعبان، يصفعان الكرامة العربية بعنف، غير أنّه يبدو أنّ الجلود صارت أكثر سُمكًا من أن تستشعر مهانة وتغضب وتتحرّك، الأوّل: صور آلاف من المستعمرين الصهاينة في المسجد الأقصى معلنين اقتراب هدمه ومحوه من الوجود، فيما كان زعيمهم مجرم الحرب، بنيامين نتنياهو، يسخر من نصف مليار عربي، حكّاماً ومحكومين من داخل نفق حفرته الأيادى السوداء تحت المسجد الأقصى ليقول إنّ أحداً لا يستطيع أن يوقفه عن تهويد القدس بشكل كامل.
المشهد الثاني: آلاف الفلسطينيين المُحاصرين بالجوع والقتل في قطاع غزّة يهيمون على وجوههم في الطريق جنوباً إلى رفح وكأنهم انسلوا من قبور دُفنوا بها أحياءً، قاصدين ما يوصف بأنه مركز لتوزيع المساعدات أسّسه أمنيون أميركيون بالتعاون مع سلطات الاحتلال، لإظهار القضية كأنها انحصرت في معاناة شعب من الجوعى يزحف إلى كسرة خبز أو كيس طحين وزجاجة مياه، فرحاً بوقتٍ مستقطعٍ من الموت اليومي، وليست قضية شعبٍ ثائرٍ وقاوم يبحث عن التحرّر من الاحتلال واسترداد أرضه وكرامته. الإمعان في إذلال فلسطينيي غزّة وإظهارهم على هذا النحو من التدافع والتزاحم طلباً للطعام كان الهدف الأساس للشركة الأميركية الصهيونية، التي خبّأت مقاصدها الأمنية والسياسية في أكياس الخبز، وغايتها النهائية حشر الآلاف بالقرب من معبر رفح لإنعاش مخطّط التهجير، كما أراده ترامب ورحّبت به إسرائيل.
في المشهدين، كان السؤال: هل من عربٍ يشعرون بالخزي، ثم يغضبون فيغادرون مقاعد الفرجة؟ هل من إدراك لفداحة المصير الذي ينتظر الكلّ مع إسرائيل جديدة لم تعد تخفي أهدافها في التمدّد بطول الأسطورة التوراتية وعرضها؟
في ما خصّ ما جرى بالأقصى أوّلمن أمس، مُنتهى الإهانة للذات والمشاركة في التدليس على الجماهير أن يقال إنّ مشاهد "الفتح الصهيوني للقدس والأقصى" تخصّ اليمين المتطرّف فقط، أو تعبّر عن تيار الصهيونية الدينية وحسب، ومنتهى الاستخفاف بالعقول والمشاعر تمرير صياغات من نوعية ما يسمّيها اليمين الإسرائيلي المتطرّف "مسيرة الأعلام" في ذكرى احتلال القدس عام 1967. ذلك أنّ عقيدة المجتمع الإسرائيلي بأسره لم تعد تعترف بأنّ وجودها على أرض فلسطين احتلال، وصارت تتحدّث عنه باعتباره فتحاً ونصراً من الله، فالقدس هي عاصمتهم الموحّدة الأبدية، أقرّ لهم بذلك دونالد ترامب، كما أنه ليس هناك ما يُسمّى الشعب الفلسطيني، بل هي فقط جالية عربية في القدس.
هكذا قال نتنياهو في خطابه القصير، وهكذا نفّذ بن غفير وقطيع من المستوطنين رقصوا في المسجد الأقصى وسبّوا نبي الإسلام، واستنزلوا اللعنات على الجنس العربي كلّه، وأعلنوا أنّ الخطوة المقبلة ضمّ الضفة الغربية كّلها. وهكذا فعل وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، الذي أخذ على عاتقه تهويد القدس والضفة وكلّ فلسطين، حين قال: "لا نخاف من كلمة احتلال، نحن نحتل أرض إسرائيل، نحرّر غزة ونستوطنها".. كلّهم مُجمعون على أنه ليست ثمّة فلسطين، فقط وجود عربي.
ليست المرّة الأولى التي تقتحم فيها حكومة الاحتلال المسجد الأقصى، فقد فعلتها قبل ذلك، فكان الطوفان الفلسطيني المجيد في 7 أكتوبر (2023) ضرورة حتمية، لكن هذه المرّة هي الأكبر والأطول والأكثر إذلالًا للنظام العربي، الذي لا يزال يعتبر أنّ أفضل الجهاد هو الوساطة، ومنتهى البطولة محاولة إقناع نتنياهو بأن يتعطّف ويرضى بصفقة تمنح الفلسطيني إجازة قصيرة من الموت، مقابل أن يتخلّى عن سلاحه ومقاومته ويسلّم ما لديه من أسرى، ليتسع المشهد حتى تُضاف تفاصيل أكثر إهانة، إذ بينما نتنياهو وبن غفير وسموتريتش يحتفلون بتهويد الأقصى، كان هناك في عاصمتين عربيتين من ينحني بكلّ احترام لمصافحة الوفد الأمني الإسرائيلي الذي تنازل وتكرّم وجاء لتمضية بعض الوقت في مناقشة صفقة أميركية، أو يودّع بابتسامة دافئة عائلات الأسرى الإسرائيليين الذين استمتعوا بإقامة فندقية وثيرة في حضور ترامب الذي جاء إلى المنطقة مبشّرًا بصفقة تنهي الحرب، ثم غادر بصفقات سلاح واستثمار تريليونية.
حتى تغطية الإعلام العربي تلك الاحتفالية الصهيونية الخليعة على مسرح مفتوح مُقام فوق عظام عشرات الآلاف من الشهداء على الهواء مباشرة، توقّفت تمامًا حين تسرّبت رائحة صفقة، ولم يعبأ بمحاولة تقديم ما يدحض الأكذوبة الصهيونية ويعرض الرواية الحقيقية لتاريخ فلسطين، إذ لم تسمع صوتًا يقول للأجيال الجديدة التي ولدت في زمن محو الوعي وتزييف السردية أنّ هؤلاء المحتفلين قراصنة تاريخ ولصوص جغرافيا لفظتهم مجتمعاتهم الأصلية في أوروبا والعالم قرفاً منهم وشحنتهم لتلقيهم في بلادنا، فوق أجسادنا.
في مواجهة هذا الاقتحام الوقح من إسرائيل، الدولة الدينية بالمفهوم الشامل الذي أقرّ به ترامب ومن قبله بايدن، تلك الدولة اليهودية الصهيونية، هل يمكن أن تمتلك المنابر الإعلامية العربية أن تستضيف مؤرخين ومحلّلين يفندون الأساطير التلمودية، ويدحضون أكاذيب الصهاينة، بالنص الديني والإثبات التاريخي؟
هل يستطيع الأزهر وغيره من المجامع الدينية العربية، الإسلامية والمسيحية على السواء، أن يشرعوا في إقامة ندوات ومؤتمرات يُدعى لها علماء الأمة ومثقفوها لاستنقاذ الأجيال القادمة من براثن وعي زائف وسردية كاذبة للصراع يشتغل بها خدم الثقافة والإعلام العربيين؟
هل من الوارد أن يتمرّد العرب الرسميون على الدور البائس الذي حُشروا فيه، بحيث صاروا لا يفعلون سوى انتظار وصول مقترح أميركي جديد، للتحرّك لتنفيذه، بدعوة الوفود الصهيونية، والضغط على المقاومة الفلسطينية؟
هل نعترف أخيراً بأنّ أمّة منتهكة في قدسها وأقصاها ومحتلة أراضيها ومعذّب شعبها، ينبغي أن تكون كلّ أيامها 7 أكتوبر، حتى تتحرّر من العدوان والاحتلال والظلم؟ أم أنه لم يبق في العروق دماء وفي الوجوه خجل؟