أحلام إيران النووية قد تبقى حيّة حتى بعد ضربة أميركية مدمّرة _


مارك لاندر- نيويورك تايمز

على رغم من الثورات والاضطرابات، أصبح البرنامج النووي متشابكاً مع أمن البلاد وهويّتها الوطنية. وأعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن «نجاح عسكري باهر»، بأنّ القنابل الأميركية أطاحت بأركان أساسية من البرنامج النووي الإيراني. وحتى لو كان محقاً، فقد لا تكون العملية قد وجّهت الضربة القاضية لبرنامج متجذّر بعمق في تاريخ إيران وثقافتها وإحساسها بالأمن وهويتها الوطنية.

منذ أن بدأت إيران أول برنامج نووي مدني طموح عام 1974 في عهد الشاه محمد رضا بهلوي، نظر قادتها إليه كرمز فخر لقيادة البلاد للعالم الإسلامي، وكدليل على التزامها بالبحث العلمي، وكوثيقة تأمين في حيّها الإقليمي الخطير.

وما كان صحيحاً في عهد الشاه ظلّ صحيحاً في ظل الحكام الثيوقراطيِّين لما بعد الثورة. وسيبقى صحيحاً، كما يرى عدد من الخبراء في الشأن الإيراني، في حال وجود حكومة إيرانية مستقبلية محتملة، حتى وإن لم يَنجُ المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، من صراع متصاعد مع إسرائيل والولايات المتحدة.

وأوضح روهام ألفندي، مدير مبادرة التاريخ الإيراني في كلية لندن للاقتصاد: «على المدى القصير، وتحت ضغط هائل، سيتعيّن على خامنئي أو خلفائه تقديم تنازلات. لكن على المدى الطويل، سيتوصّل أي قائد إيراني إلى استنتاج مفاده أنّ إيران يجب أن تمتلك رادعاً نووياً».

من خلال انضمامه إلى الحملة العسكرية الإسرائيلية ضدّ إيران، زاد ترامب بشكل كبير من الكلفة التي قد يدفعها القادة الإيرانيّون في حال رفضوا القبول بقيود صارمة على برنامج تخصيب اليورانيوم. ومع ذلك، وبغضّ النظر عن كيفية انتهاء هذا الصراع، ربما يكون قد منحهم دوافع أقوى للسعي وراء رادع نووي، بحسب الخبراء.

ورأى البروفيسور ألفندي، في إشارة إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وولي العهد محمد بن سلمان: «أي مفكر استراتيجي في إيران، حالياً أو مستقبلاً، يدرك أنّ إيران تقع في الشرق الأوسط، وأنّ جيرانها هم إسرائيل بقيادة نتنياهو، طالبان في أفغانستان، ومحمد بن سلمان في السعودية».

ويمكن لإيران الآن أن تضيف الولايات المتحدة إلى قائمة التهديدات هذه.

يُرجّح أنّ القصف الأميركي ألحق أضراراً جسيمة بمنشأتَي التخصيب في نطنز وفوردو، وبالمجمع البحثي في أصفهان. وأسفرت ضربات إسرائيلية سابقة عن مقتل عدد من أبرز العلماء النوويِّين الإيرانيِّين، إلى جانب إلحاق أضرار بالمنشآت. وبمجملها، يمكن أن تؤخّر هذه الضربات البرنامج الإيراني لسنوات.

لكنّ القنابل وحدها لا يمكنها أن تمحو المعرفة التي راكمها الإيرانيّون على مدى يقارب 7 عقود، منذ عام 1957، عندما وقّعت إيران أول اتفاق تعاون نووي مدني مع إدارة الرئيس دوايت آيزنهاور. فقد كانت الولايات المتحدة آنذاك تُشجّع الدول على استكشاف العلوم النووية السلمية من خلال مبادرة «الذرات من أجل السلام» للرئيس آيزنهاور.

عام 1967، وبمساعدة أميركية، أنشأت إيران مفاعلاً بحثياً صغيراً في طهران لا يزال قائماً حتى اليوم. وبعد عام، وقّعت على معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، كرمز لرغبة الشاه في أن تُقبل بلاده ضمن نادي الدول الغربية. وبعد أن أغرقته عائدات النفط نتيجة صدمة أسعار 1973، قرّر الشاه التوسع سريعاً في برنامج إيران النووي المدني، بما في ذلك تطوير قدرة محلية على التخصيب. وأرسل العشرات من الطلاب الإيرانيِّين إلى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا لدراسة الهندسة النووية.

كان الشاه يرى في المشروع رمزاً للهيبة، ينقل إيران إلى مصاف الدول الرائدة في الشرق الأوسط. لكنّ ذلك وضعه في مواجهة مع الولايات المتحدة التي كانت قلقة من أن تُعيد إيران معالجة الوَقود المستهلك لاستخراج مواد انشطارية يمكن استخدامها في سلاح.

ويؤكّد البروفيسور ألفندي، مؤلف كتاب «نيكسون، كيسنجر والشاه: الولايات المتحدة وإيران في الحرب الباردة»: «لقد كان رمزاً لوصول البلاد إلى مصاف القوى الكبرى، مع فكرة جانبية أنّه إذا هدّد العراق إيران، يمكن تحويل البرنامج لأغراض عسكرية».

حتى إنّ الشاه أكّد بأنّ إيران ستحصل على أسلحة نووية «من دون شك، وفي وقت أقرب ممّا يتوقّع المرء»، لكنه تراجع عن التصريح لاحقاً.

سعى وزير الخارجية هنري كيسنجر آنذاك إلى فرض ضمانات على البرنامج الإيراني، إلّا أنّ الشاه رفضها. ونتيجة لذلك، حصلت فرنسا وألمانيا، وليس الولايات المتحدة، على عقود مربحة لبناء الصناعة النووية الإيرانية. وبدأت الشركات الألمانية ببناء محطة بوشهر للطاقة النووية عام 1975، وهو مشروع توقّف بعد الثورة الإيرانية عام 1979.

نظر حُكّام إيران الجدد في البداية إلى البرنامج النووي على أنّه تبذير مفرط من قِبل الشاه. فأوقفوه حتى نهاية الحرب الإيرانية-العراقية عام 1988، عندما أقنعتهم الهجمات المتكرّرة التي شنّها العراق على منشأة بوشهر، ناهيك عن استخدامه الأسلحة الكيميائية، بأنّ برنامجاً نووياً قوياً سيكون له قيمة رادعة مفيدة (بوشهر أُعيد بناؤه بمساعدة روسية، ولا يزال يعمل حتى الآن).

وأوضح راي تاكيه، الخبير في الشأن الإيراني في مجلس العلاقات الخارجية: «من بعض النواحي، كانت حسابات الجمهورية الإسلامية مشابهة لتلك التي أجراها الشاه: تعبير عن القوة والهيبة».

أصبح البرنامج النووي لا ينفصل عن القومية المتطرّفة للنظام، والمحرّك وراء التظاهرات التي تنظّمها الدولة يومياً وتردّد فيها هتافات «الموت لأمريكا» و«الموت لإسرائيل». وفي عام 2006، خلال رئاسة محمود أحمدي نجاد، تحوّل إلى ما يُشبه الهوَس. أقيمت عروض راقصة حمل فيها المشاركون قوارير قيل إنّها تحتوي على نوع من اليورانيوم، احتفالاً بـ»حق إيران في التخصيب».

عمل البرنامج على مسارَين مزدوجَين بوضوح: برنامج مدني لم يُسهِم كثيراً في احتياجات إيران من الطاقة، وبرنامج سرّي للتخصيب، دفع إيران إلى مسار تصادمي مع إسرائيل والولايات المتحدة. ويعتقد المحللون إنّ عقوداً من الاستثمار في البرنامج، والترويج له كرمز قومي، ستجعل من الصعب على أي قائد إيراني التخلّي عنه ببساطة. فحتى بين الإيرانيِّين الغاضبين من النظام أو غير المهتمّين بحسابات الردع الاستراتيجي، أصبح البرنامج النووي مصدر فخر وطني لهم.

ويُضيف تاكيه، مؤلف كتاب «الشاه الأخير: أميركا، إيران وسقوط سلالة بهلوي»: «سيكون لدى أي نظام يخلف النظام الحالي، أياً كان ومن أي طريق أتى إلى السلطة، وجهة نظر مماثلة بشأن مواصلة الطموحات النووية للبلاد. سيركّز على العلوم النووية كأعلى أشكال البحث العلمي. وسيسعى إلى برنامج نووي ذي طابع متقدّم ومحلي بالكامل». والسؤال، برأي تاكيه، هو «ما إذا كان هذا سيكون أكثر قبولاً من قبل الولايات المتحدة، كما كانت طموحات الشاه إلى حدٍّ ما».

راهناً، يرى عباس ميلاني، مدير دراسات الشأن الإيراني في جامعة ستانفورد، أنّ «خامنئي يواجه مأزقاً وجودياً بحدَّين. بإمكانه الإصغاء إلى خطابه المتشدّد ونصائح المتشدّدين في دائرته الداخلية»، ممّا يعني محاولة إغلاق مضيق هرمز والانتقام من السفن والقواعد الأميركية في المنطقة. أو بإمكانه التهوين علناً من الأضرار التي لحقت بالمنشآت النووية والسعي إلى تفاهم مع الولايات المتحدة، بالتالي «إنقاذ نظامه ليقاتل في يوم آخر.

الشعب الإيراني البريء هو مَن سيدفع الثمن الباهظ في الحالتَين».

أحلام إيران النووية قد تبقى حيّة حتى بعد ضربة أميركية مدمّرة _مارك لاندر- نيويورك تايمز