أبعد من سلاح خارج الميدان _ رفيق خوري


رفيق خوري

ليس جديدًا أن يلجأ المسؤولون وغير المسؤولين إلى شراء الوقت في ظروف صعبة. لكن سياسة شراء الوقت اليوم صارت خاسرة في لبنان. فالشرق الأوسط وأميركا وأوروبا في سباق مع الوقت. ولا أحد يبدو مستعدًا لأن يبيع من لبنان الوقت الذي يحاول أن يشتريه. ولا معنى لشراء الوقت حين يتحوّل البلد إلى محطة انتظار غادرها قطار التحوّلات. فالكلّ يعرف، وإن كان البعض يهرب من الاعتراف، أن الأمور لن تتحرّك مع بقاء السلاح الذي يرفض "حزب اللّه" تسليمه إلى الجيش. وحتى لو حدثت معجزة وجرى تسليم السلاح، فإن جوهر التغيير الملح في لبنان لا يزال في قبضة المتحكّمين بنا من زمان: الإصلاح المالي والمصرفي وقانون "الفجوة"، الإصلاح السياسي الذي يبدأ من قانون الأحزاب قبل قانون الانتخاب، ونهاية السطو على الطوائف لفتح الطريق الطويل إلى دولة المواطنة.

ذلك أن التحوّلات لا تنتظر المتردّدين والخائفين من الرافضين المصرّين على مواجهتها بسياسات انتحارية. فما بدأ في غزة لن يبقى في القطاع وحده من دون إعادة الربط بالضفة الغربيّة، وإلّا تمكن نتنياهو من تدمير "حلّ الدولتين" بعد تدمير غزة. وما يحدث على الطريق إلى دولة فلسطينية يساهم في استعادة لبنان دور الوطن وبناء دولته بعد عقود من اللعب به وتحويله إلى "ساحة" للصراعات المحلية والإقليمية والدولية. وعودة لبنان إلى ذاته و "رسالته" في العيش المشترك والحرية هي عامل يضاف إلى عوامل عدّة في تجديد العالم العربيّ وازدهاره وتركيز موقعه الجيوسياسي وتحرير مسرحه من لعب القوى الإقليمية الثلاث المتنافسة على ما هو أكثر من النفوذ فيه.

والهوامش ضاقت على الجميع، وخصوصًا على الذين تصوّروا أن المجال واسع أمامهم للممانعة والمناورة وانتظار المعجزات. والسياسات أكبر من عناوينها: وقف الحرب في غزة يقود إلى ما يتجاوز نهاية حرب إسرائيل الإبادية ومقاومة "حماس". وتطبيق القرار 1701 ووقف الأعمال العدائية في لبنان ليسا مجرّد نهاية لـ "حرب الإسناد" والاعتداءات الإسرائيلية التي لم تتوقف بمقدار ما هما مقدّمة لانسحاب إسرائيل وسحب سلاح "حزب اللّه" ضمن التحوّلات التي تقود إلى سلام واسع وثابت في الشرق الأوسط للمرة الأولى منذ مئة عام من الحروب والصراعات. فلا الصراع العربي- الإسرائيلي هو كل الصراعات. ولا السلام العربي- الإسرائيلي هو السلام الشامل في غرب آسيا.

ولا جدوى من الجدل حول مفهوم "النصر والهزيمة" بالنسبة إلى "حماس" و "حزب اللّه" وإسرائيل والوسطاء والرئيس دونالد ترامب والمتفرّجين. فالقواميس مختلفة. والمنطق مختلف. ومن السهل على أي طرف القول إنه ليس مهزومًا لمجرّد كونه بقي على قيد الحياة ولم يحقق العدو كلّ أهدافه في الحرب. لكن من الصعب تجاهل نتائج المعارك ثمّ الادعاء أنها ليست مقياسًا للربح والخسارة. والأصعب هو الهرب إلى الأمام من الواقع بعد الوقائع. والواقع ناطق. مشروع "حماس" العسكري وصل إلى طريق مسدود، طريق القتال مع عدو متوحّش لا يتردّد في تدمير كل شيء بحرب إبادة، ومن منطقة يحاصرها هذا العدو ويستطيع منع الماء والدواء والطعام عنها، ومن دون قوى تنخرط معه في القتال الفعلي، لا الرمزي تحت عنوان "وحدة الساحات". والمشروع الإقليمي الإيراني الذي "حزب اللّه" رأس الحربة فيه اصطدم بالجدار والحقائق الصلبة في العالم العربي والحسابات الإقليمية القوية والانخراط الأميركي الكامل في المواجهة وسط وضع دولي ملائم لترامب.

ولا مهرب أمام "حماس" من التخلّي عن السلاح وحكم غزة ضمن التفاهم أو بالقوة التي يقول ترامب إنه يطلقها بكلمة منه. وليس في إصرار "حزب اللّه" على التمسّك بسلاح صار خارج الميدان سوى ما يؤدّي في الحدّ الأدنى إلى تعميق المأزق السياسي والأزمات المالية والاقتصادية، وفي الحدّ المتوسط إلى استمرار الاعتداءات الإسرائيلية من دون ردّ ثم إلى إكمال الحرب وتدمير السلاح والبلد على يد العدو. مقاومة، ولكن لخروج لبنان من المأزق؟

و "فهم الهزيمة تحضير للنصر" كما قال ماوتسي تونغ.

صحيفة الجمهورية
أبعد من سلاح خارج الميدان _ رفيق خوري