سعدية مفرح
في غزة، لا توجد استثناءات من الموت. لا مهنة تحميك، ولا أمومة تعفيك، ولا وجود للخطأ في توجيه الصواريخ. الحكايات في هذه المدينة ليست مشاهد درامية ولا سرديات خيالية، بل وقائع دامغة تسير على الأرض، وتُسجل في ذاكرة من تبقى. واحدة من هذه القصص هي قصة الطبيبة الفلسطينية آلاء النجار.
آلاء لم تكن في البيت حين سقط عليه صاروخ إسرائيلي. كانت في المستشفى، في عملها اليومي كطبيبة أطفال. تؤدي واجبها الإنساني في رعاية من نجا من الموت، تعالج المصابين وتواسي المفجوعين، وتقاتل بيديها وضميرها من أجل إنقاذ أرواح صغيرة. وبينما كانت تقوم بذلك، لم تكن تعلم أن تسعة من أطفالها كانوا يُقتلون في اللحظة ذاتها، في بيتها، الذي تحول في دقيقة إلى ركام.
حين عادت، لم تجد بيتًا. لم تجد أصواتًا مألوفة، لم تجد حتى فرصة للوداع. لم تجد سوى أنقاض، وجثث ممزقة، وأشلاء صغيرة متناثرة، كل منها يحمل اسمًا من أسماء أبنائها. تسعة أطفال، لم يكن فيهم مقاتل، ولا مستهدف عسكريا، ولا من يشكل تهديدًا لأي طائرة أو صاروخ أو جندي. كانوا أطفالا فقط!
هذه ليست حادثة معزولة، وليست "أضرارًا جانبية”. هذا قصف مباشر لمنزل مدني، في حي سكني، أثناء وجود الأطفال فيه، في لحظة غياب للأم. الصاروخ لم يخطئ. كان دقيقًا في إصابته. هذه هي طبيعة العدوان الذي يتعرض له سكان غزة؛ لا أحد في مأمن، ولا منزل يُستثنى، ولا طفل يُعفى.
الطبيبة آلاء لم تُقتل. نجت، فقط لتظل شاهدة حيّة على جريمة مكتملة الأركان. وهذا بحد ذاته عقاب آخر. أن تُترك أم بلا أطفالها، أن ترى البيت بلا أصوات، بلا لعب، بلا فوضى الحياة اليومية، أن تُجبر على حمل صورهم بدلًا من أيديهم، وعلى تذكّرهم بدلًا من تربيتهم. نجت، لتروي الحكاية، لتكون شاهدًا حيًا على المجزرة.
هذه القصة، على قسوتها، ليست الأشد غرابة في غزة. في كل يوم، هناك أم فقدت أبناءها، هناك أب حمل أشلاء طفله بيديه، هناك منزل تحول إلى قبر جماعي. لكن في قصة آلاء تتجلى المفارقة البالغة: طبيبة أطفال تفني يومها في محاولة إنقاذ أطفال الناس، وتفقد في المقابل أطفالها جميعًا بصاروخ واحد.
من واجبنا ألا نقرأ هذه القصة كخبر، بل كوثيقة إدانة. هذه الحكاية شهادة دامغة على نوع الحرب التي تُشن على غزة، وعلى الاستهداف المباشر للمدنيين، وعلى انهيار كل ما يمكن أن يُسمى قانونًا دوليًا أو معايير إنسانية. ما يحدث في غزة ليس مجرد "ردود فعل”، ولا مجرد "نزاع معقّد”، بل هو عدوان منظم ضد شعب كامل، يُعاقب جماعيًا في كل تفاصيل حياته.
آلاء لم تكن تحمل سلاحًا، ولم يكن بيتها مخزنًا للذخيرة، وأطفالها لم يكونوا مقاتلين. كانوا تسعة أرواح تنام في البيت، مثل أي أطفال في العالم. لكن في غزة، لا يُمنح الأطفال حق النوم الآمن، ولا الأمهات حق الحياة العادية، ولا البيوت صفة الحماية.
حين نكتب عن هذه القصة، لا نحتاج إلى زخارف لغوية أو استعارات أدبية. يكفي أن نقول الحقيقة كما هي؛ قصف بيت فيه تسعة أطفال، فقتلوا جميعًا، وبقيت أمهم شاهدة. هذه جريمة لا تحتاج تفسيرًا، ولا تحليلًا، ولا تبريرًا. هذه مأساة لا ينبغي أن تمر بصمت.
صوت آلاء اليوم ليس مجرد صوت أم مكلومة، بل هو صوت غزة كله. هو الصوت الذي يصرخ في وجه العالم: انظروا جيدًا. هذا ما يحدث هنا. ليس في الخيال، بل في الواقع، كل يوم.
صحيفة الشرق القطرية