علي باكير
لأنني نتاج نظام تعليمي، يقوم على الحفظ والتلقين والترديد الببغاوي، فقد نشأت- وما زلت- مفتقرا للمهارات اليدوية، والهوايات، ولسنين عددا كانت الوسيلة الوحيدة لتزجية الوقت عندي، هي القراءة. خذ في الاعتبار أنه حتى جهاز الراديو، لم يكن متاحا في بلدتي الصغيرة في شمال السودان النوبي، إلا في بيت العمدة، ولم نكن نفهم معظم ما يقوله الراديو بسبب حاجز اللغة. ثم ظهر التلفزيون، وكان جار لنا ميسور الحال بعض الشيء، يسمح لنا بمشاهدة البث التلفزيوني في بيته نظير رسم مالي معلوم لمدة معلومة، وعندما انتشر التلفزيون وبائيا، لم نجد في محتواه ما يحمل على المتابعة، لأن كل شيء فيه كان عن "الحكومة"، ذلك الكائن الهلامي المرعب، وعن أقطابها الغر الميامين، وعملا بالمثل السوداني "الخلاء ولا الرفيق الفَسِل"، أي أن العزلة خير من رفقة السوء، لجأت مثل غيري إلى "خلاء" وخلوة الكتب.
قطعا فإن لوسائل التواصل الإلكتروني فوائد جمة، فقد جعلت البعيد قريبا، وعززت ديمقراطية المعرفة والمعلومات، وخففت من وطأة فواتير التلفونات على الجيوب، ولكن كل شيء إذا فات حدّه انقلب إلى ضدّه.ثم مد الله في أيامنا، وحضرنا عصر التلفزة الفضائية والأنترنت، والهاتف الذكي. وبدون فخر، فمن علامات نبوغي المبكر، أنني استخدمت الهاتف لأول مرة وعمري 16 سنة وكان ذلك عندما تم استدعائي إلى مكتب مدير مدرستي الثانوية. وما كان لطالب أن يدخل مكتب ذلك المدير إلا لتلقي عقوبة "الفصل"، فتحصنت بـ"يس" و"الفلق"، ودخلت المكتب برجلي اليمين، فأشار المدير بإصبعه إلى الهاتف الموضوع على طاولة صغيرة، وبما أنه سبق لي مشاهدة الهاتف على شاشة السينما، فقد رفعت السماعة، وجاءني صوت شقيقي الأكبر، وأبلغني أن جدتي توفيت، ولم أجد ما أقوله له سوى "أوكي"، ثم خرجت من هناك مذهولا، ووجدت عددا من زملائي في انتظاري ليعرفوا ما هي الجريمة التي ارتكبتها، واستوجبت استدعائي إلى مكتب المدير، وفوجئوا بابتسامتي، وهي تجعل طرفي فمي يلتصقان بالأذنين، وقلت لهم إنني تلقيت مكالمة هاتفية من شقيقي، وصرت في نظرهم في تلك اللحظة، كمن أتى بما لم تستطِعه الأوائل.
وسبحانه "الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى"، هأنذا أكتب هذه الكلمات على كمبيوتر موضوع على طاولة أنيقة، ومن خلفه طابعة، وعلى يساري تلفون آيفون، ولا أثر لكتاب حولي، فخلال عام 2025 الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة، قرأت كتابين فقط. ولكن لماذا الجفوة مع الكتب؟ الله يجازي اللي كان السبب. والسبب هو يوتيوب وتيك توك. فجُلّ، إن لم يكن كل لحظات فراغي أقضيها مع هذين التطبيقين. ولأن جرعات تيك توك خفيفة وسريعة وقصيرة، فقد جعلتني قليل الصبر على أي مادة، عبر أي وسيلة تستغرق أكثر من بضع دقائق.
وأقر وأعترف بأن تلك الجرعات جعلتني كائنا غير اجتماعي، بمعنى أنه حتى علاقتي بأفراد أسرتي الصغيرة صارت تقتصر على هاي وباي، مما حدا بزوجتي إلى الجهر باتهامي بالارتداد إلى الأمية، وإلى طفولة "في غير عصري"، وحثِّي على مجافاة ما تعتبره عبثا، والحرص على حسن الخاتمة، وقد أفحمتها بقولي إنني سوداني، وسأكون بإذن الله من أهل الجنة، لأن الله أكرم من أن يعذب عبده مرتين.
أخطر ما في تيك توك ورصفائه في وسائل التواصل ليس فقط جعل من يتابع محتوياتها انطوائيا، بل إنها تحوله إلى مدمن، يفضل التعامل مع عوالم افتراضية على التعامل مع العالم والشخوص الحقيقية، التي من لحم وعظم ودم.وإنصافا لنفسي، فإنني أشاهد يوميا أفلاما تسجيلية على يوتيوب، وأتواصل على نحو شبه منتظم مع من يقرأون لي في فيسبوك. ولكنني أعود وأقرّ وأعترف بأن وسائل التواصل الاجتماعي هذه جعلتني قليل الصبر وقليل التركيز وقليل النوم (من الثابت أن ومض الشاشات الأزرق، يجلب الأرق). وهناك أمر آخر شديد الخطورة على صحتي النفسية، وهو أنني أتعرض أحيانا لسباب مقذع في فيسبوك، ونظامها البريدي "مسنجر" لرأي أبديته، ولأنني أعارض الحرب الدائرة في السودان، فقد اتُّهِمت بالعمالة والخيانة والارتزاق، ثم التعاطف مع قوات الدعم السريع التي تحارب الجيش السوداني النظامي، مع أن تلك القوات "حرّرت" بيتي في الخرطوم بحري، أي احتلته وتركته قاعا صفصفا.
أخطر ما في تيك توك ورصفائه في وسائل التواصل ليس فقط جعل من يتابع محتوياتها انطوائيا، بل إنها تحوله إلى مدمن، يفضل التعامل مع عوالم افتراضية على التعامل مع العالم والشخوص الحقيقية، التي من لحم وعظم ودم. وخطرها على صغار السن أفدح، فلأن تجاربهم في التعامل مع عالم الواقع محدودة، فإن العوالم الافتراضية تجتذبهم، ولا يكتسبون منها خبرة أو تجربة، بل إن من يدمنها يتحول الى "تنبل" يجلس بلا حراك وعيناه مغروزتان على شاشة، فيبتسم ويضحك ويبتئس متقلبا من حال الى حال بينما جسمه في حال ثبات. هذا بالطبع فوق المحتوى الذي لا يليق بقاصر او راشد أن يتعاطاه على نحو منتظم أو غير منتظم، مع فقدان القدرة على التمييز بين ما هو خطأ وما هو صواب، خاصة وأن تطبيقا مثل واتساب ينوء بأحمال من الأكاذيب، تنطلي على ذي الحس الأخلاقي ـ الثقافي الهش.
قطعا فإن لوسائل التواصل الإلكتروني فوائد جمة، فقد جعلت البعيد قريبا، وعززت ديمقراطية المعرفة والمعلومات، وخففت من وطأة فواتير التلفونات على الجيوب، ولكن كل شيء إذا فات حدّه انقلب إلى ضدّه.
موقع عربي 21