نيويورك تكسر موجة الإسلاموفوبيا _


محمود الريماوي

مع أن انتخاب رئيس بلدية (عُمدة) للعاصمة الأولى (أو الثانية) يعدّ حدثاً محلّياً في الشطر الأكبر من الدول، إلا أن هذا الحدث يكتسب أبعاداً خارجيةً حين يتعلّق الأمر بالديمقراطيات الغربية، وفي البلدان النامية السائرة في طريق التقدّم. ولهذا، كانت الأصداء الواسعة لفوز مرشّح الحزب الديمقراطي الأميركي، الشاب زهران ممداني، برئاسة بلدية نيويورك، متوقّعة. فالرجل يتبنّى برنامجاً داخلياً طموحاً، ويُجاهر بآراء سياسية رصينة وشجاعة، ما أثار اهتماماً فائقاً به، يُضاف إلى أنه مسلم من أصول هندية، ويحمل أفكاراً يسارية الطابع ("أنا شاب ومسلم واشتراكي ديمقراطي، ولا أنوي الاعتذار عن ذلك"). وقد أدّت تهجّمات الرئيس دونالد ترامب عليه، عقب فوزه بترشيح الحزب الديمقراطي إلى نتائج لمصلحته. فأن يُنعت بأنه "مجنون ومتطرّف، وصوته مُزعج، ولا يفقه شيئاً" فذلك ممّا يثير التضامن معه معتدىً عليه، حتى ممّن لا يعرفه جيّداً، في مواجهة هذه الشتائم المُرسلة. بينما اقترح شباب جمهوريون التخلّص من "إزعاج " هذا الشاب بالقفز عن أي اعتبارات دستورية ومقتضيات قانونية بسحب جنسيته (كسبها عام 2018) وترحيله من البلد.

ولم تتوقّف التفاعلات عند تيار اليمين الجمهوري، ففي داخل الحزب الديمقراطي ظهرت أصوات تحذّر من الميول اليسارية "الزائدة عن الحدّ" لديه، ولا تتجاوز هذه الميول الدعوة إلى رفع الضريبة بنسبة 2% عمَّن تزيد دخولهم على مليون دولار في السنة، على أن تذهب العوائد إلى إدارة حضانات الأطفال ودعم العاملين في وسائط النقل العام بما يمكّن من جعل هذه الخدمات مجّانية، وفي مرحلة لاحقة لبناء وحدات سكنية جديدة تُؤجّر للفقراء بأسعار رمزية لمواجهة ارتفاع الإيجارات، ولمعالجة تدنّي المستوى الصحّي والبيئي للمساكن، وذلك في مدينة كبيرة يشكو نحو ربع سكّانها من فقر مُدقع (مليونا نسمة). ولم تتوقّف المؤاخذات عند ذلك، بل شملت موقفه المناصر للقضية الفلسطينية، وإدانته الثابتة حرب الإبادة، مع التمسّك بوصفه لها: إبادةً وليست أقلّ من ذلك، ثمّ الدعوة إلى محاسبة إسرائيل والتوقّف عن شحن الأسلحة إليها، مع تعرّضه للتهمة الأوتوماتيكية والسمجة بعداء مزعوم للسامية.
ما إن أعلن فوز هذا الشاب الطموح، حتى خطر في ذهن المرء أن الإسلاموفوبيا ليست مُستفحِلة في بلاد العم سام، وليست مُستشرِيةً وباءً ثقافياً واجتماعياً يتعذّر إنكاره ووقفه، بدليل أن ممداني فاز على منافسه "الأبيض" في نيويورك، الحاكم السابق أندرو كومو، وهي المدينة التي عرفت هجوم 11 سبتمبر (2001) الشنيع على بُرجي التجارة، وجّهتْ التهم إلى مسلمين. ومع ذلك، كسر الناخبون في نيويورك هذه الموجة وهذا الانطباع، فاقترعوا لشاب جذبهم إليه برنامجه غير التقليدي. ومغزى ذلك أن مشاعر الهُويَّة، والشعور تجاه "الآخر"، تستيقظ أحياناً لدى أوساط ما بسبب أو من دون سبب، فيما تتحكّم الحاجات الحيوية والمصالح الملموسة بخيارات الناخبين في ظرفٍ يتعلّق بأمنهم الاقتصادي والاجتماعي. لقد سبق لترامب أن حمل على إلهان عمر ورشيدة طليب، وفي أجواء من حملة على الوافدين المسلمين، لكن هذه الحملة أدّت، في النهاية، إلى انتخاب شاب مسلم في المدينة الكبرى. ومن مفارقات مثيرة للسخرية، وللتأمل، أن ترامب قد استغلّ زيارته المملكة المتحدة (سبتمبر / أيلول الماضي) كي يشنّ حملةً على عمدة لندن المسلم صادق خان، وتباهى بأنه قد منع خان (فاز بثلاث ولايات متتابعة منذ 2016) من المشاركة في حفل العشاء الرسمي الذي أقامه الملك تشارلز لضيفه، فإذا بكبرى مدن بلاده تختار عمدةً مسلماً، ما أثار حفيظته، وهدّد بأنه لن يمنح نيويورك أموالاً فيدرالية تتجاوز الحدّ الأدنى المطلوب. مع الأخذ في الاعتبار أن عوامل أخرى مهمة حكمت موقف ترامب، في مقدّمها أن زهران يساري الميول حقّاً (على الأقل بالمعايير الأميركية)، وأنه مع العدالة في فلسطين ضدّ الاحتلال الإسرائيلي العنصري، علاوة على انتماء ممداني للحزب الديمقراطي، وأنه يشقّ طريقاً لتيار يساري شبابي متنامٍ داخل الحزب وخارجه. ويرجع الفضل في تأسيس هذا التيار إلى النائب بيرني ساندرز. وهذا، على نزاهته وشجاعته، لم يكن ليجتذب جيل الشباب مقارنة بالشاب ممداني، الذي نجح في توظيف 

بصعود هذا الرجل، سوف تُواجه الحملة على المهاجرين ذوي البشرة الداكنة، وعلى من يدينون بالإسلام أو ينتمون إلى الشرق الأوسط وبلاد الهند والسند، أو من هم من أصول أميركية لاتينية، حائطَ صدٍّ جديداً، يضاف إلى ما تمثله المحاكم العليا الأميركية من قوة دستورية، ومن وزن سياسي ومعنوي في مواجهة حملة كراهية لا تخلو من نزعاتٍ عنصرية، وتتسبّب في تمزيق الأُسَر وحرمانها من موارد العيش أو فرص التعليم، وهي الحملة التي جنحت لاستهداف المشرّعتَين إلهان ورشيدة، وكادت المترشّحة الرئاسية كامالا هاريس تُدرك (وقد أصابها شررٌ من تلك الحملة) أثرَ ذلك في خسارتها السباق.
وإلى ما تقدّم، يضيف فوز زهران ممداني رصيداً إلى الأصوات المتزايدة الناقدة لدولة الاحتلال في أوساط الجيل الجديد، وبين شرائح الفنّانين والرياضيين والمؤثّرين والإعلاميين، إلى أصوات قليلة في الكونغرس، وهو ما شهد عليه ترامب نفسه، الذي اعترف بأنه لم يسبق للدولة العبرية أن انخفضت أسهمها في أعين الجمهور وداخل المؤسّسات كما حدث خلال العام الجاري مع حرب نتنياهو على غزّة. حتى إن زهران ممداني صرّح بأنه لن يتوانى عن إصدار الأوامر باعتقال نتنياهو في حال هبطت طائرته في نيويورك، فمدينته تحترم ما يقوله القانون الدولي، في إشارة إلى أمر المحكمة الجنائية الدولية باعتقال هذا الشخص، علماً أن أميركا ليست عضواً في هذه المحكمة. لكن هذه المحكمة تعتبر حُكماً جزءاً من القانون الدولي، كما يُستشفّ من حديث ممداني عن المطلوب نتنياهو. ومع العلم أيضاً أن أوامر بهذا المستوى ليست منوطةً بالعمدة وحده، بل بالحاكم، وبقرارات عليا فيدرالية.

العربي الجديد

نيويورك تكسر موجة الإسلاموفوبيا _محمود الريماوي