من الروشة إلى بعبدا: من يشرب ميّة قرارات الدولة؟ _ صلاح سلام


صلاح سلام

يقف لبنان اليوم أمام اختبار جديد لخيار الدولة في واحدة من أدقّ مراحل تاريخه الحديث، حيث يناقش مجلس الوزراء ثلاثة بنود حاسمة تتعلّق بجوهر الصراع القائم بين منطق الدولة ومنطق الغلبة، بين سلطة القانون وسلطة الأمر الواقع.
هذه البنود، التي قد تبدو للوهلة الأولى إجرائية، تحمل في طيّاتها معاني أبعد بكثير: هل لا يزال في لبنان دولة قادرة على فرض هيبتها؟ أم أننا بتنا أسرى «دويلة» تملي إرادتها وتحتقر مؤسسات الشرعية؟
البند الأول، المتعلق باستماع المجلس إلى وزير العدل حول الملاحقات القضائية للمخالفين في تظاهرة الروشة، يشكّل المحكّ الأوّل. فالتظاهرة التي شهدت استعراضاً للسلاح وتهديداً للسلم الأهلي لم تكن مجرد حادثة عابرة، بل تحدٍّ صارخ للدولة في قلب العاصمة. فهل ستُستكمل الملاحقات حتى النهاية، أم سيُطوى الملف مجدداً تحت شعار «التهدئة» و«المصلحة الوطنية»؟
التجارب السابقة لا تُطمئِن، إذ اعتاد اللبنانيون أن يروا القانون يُطبّق على الضعفاء فقط، فيما الأقوياء فوق المحاسبة. وإذا ترددت الحكومة في حماية القضاء من الضغوط، فهي بذلك تُقرُّ عملياً بأن العدالة في لبنان انتقائية ومقيّدة بخطوط سياسية وطائفية.
أما البند الثاني، الخاص بسحب ترخيص جمعية «رسالات» التي خالفت شروط الترخيص الممنوح لها، فيختبر جدّية السلطة في مواجهة من يحوّلون الجمعيات الثقافية إلى أذرع حزبية تمارس الدعاية لمشاريع تتجاوز حدود الدولة، ولا علاقة لها بالأهداف الواردة في نظامها. فالتهاون مع هذه المخالفات يكرّس ازدواجية المعايير، ويمنح «الدويلة» أداة إضافية لاختراق المؤسسات الشرعية تحت عناوين فضفاضة.
لكن البند الثالث هو الأشدّ حساسية: تقرير قيادة الجيش حول تنفيذ قرار حصرية السلاح بيد الدولة. هنا تتجسّد المعضلة اللبنانية المزمنة: كيف يمكن الحديث عن سيادة وهيبة ومؤسسات في ظل وجود سلاح منفلّت خارج إطار الشرعية، يقرّر السلم والحرب بمعزل عن مؤسسات الدولة؟لقد تعب اللبنانيون من الشعارات المُلتبسة عن «توازن الردع» و«المعادلة الذهبية»، ويريدون موقفاً واضحاً لا لبس فيه: إما أن يكون السلاح بيد الدولة وحدها، أو لا معنى للدولة أصلاً.
وفي خضمّ هذه الملفات المعقَّدة، جاءت تصريحات النائب حسن فضل الله لتزيد المشهد استفزازاً، حين قال متحدّياً: «مهما كانت قراراتكم بلّوها واشربوا ميّتها».إنها عبارة صادمة، لا تليق بنائب يفترض أنه ممثل للأمة، وتكشف بوضوح الذهنية التي تتعامل مع الدولة وكأنها مجرّد إدارة خاضعة لتعليمات «الحزب».
فكيف يمكن بناء دولة القانون في ظل من يفاخر برفض قراراتها سلفاً؟ وكيف يُعقل أن يُهان مجلس الوزراء بهذا الشكل من داخل المجلس النيابي دون أن يحرّك أحد ساكناً؟
وليس هذا الموقف جديداً، إذ يذكّرنا بتصريح النائب محمد رعد يوم قال في اليوم التالي لتوقيعه على طاولة الحوار الوطني إن «إعلان بعبدا بلّوه واشربوا ميّتو»، في استهزاءٍ واضح ببيان وطني جامع أقرّته كل القوى السياسية في حينه، وكان الهدف منه تحييد لبنان عن صراعات المنطقة وصون استقراره.
الأسلوب نفسه يتكرّر اليوم: تحدٍّ سافر لقرارات الدولة، وازدراء علني لكل ما يرمز إلى دولة القانون والمؤسسات، وكأن البلاد محكومة بثنائية السلاح والهيمنة، لا بثنائية السلطة والمسؤولية.
في ضوء هذه الوقائع، يبدو مجلس الوزراء اليوم أمام امتحان لا يقلّ مصيرية عن أي استحقاق وطني سابق. فإذا استطاع أن يُناقش هذه البنود بهدوء ومسؤولية، وأن يخرج بقرارات واضحة تحافظ على هيبة الدولة وتطبيق القانون على الجميع، فسيكون قد خطا خطوة أولى على طريق استعادة الثقة بالدولة وقدراتها الشرعية.
أما إذا رضخ للابتزاز السياسي وتغاضى عن انسحاب وزراء «الثنائي» أو بتعطيل الجلسة، فسيكون قد أقرّ ضمنياً بأن الدولة عاجزة عن حماية نفسها، وأن منطق الغلبة لا يزال الحاكم الفعلي لمصير اللبنانيين.
لبنان اليوم لا يحتاج إلى بيانات غامضة أو تبريرات واهية، بل إلى موقف وطني حاسم وصريح يقول بوضوح: لا سلاح إلا سلاح الشرعية، ولا سلطة إلا سلطة القانون.
فالدولة التي تُهان بعبارات من نوع «بلّوها واشربوا ميّتها» لن تستعيد كرامتها بالصمت أو المجاملة، بل بالجرأة في الفعل والمحاسبة.
وإذا لم تُثبت الحكومة اليوم أنها أهلٌ للدفاع عن نفسها، وعن الدستور الذي أقسم رئيس الجمهورية على احترامه، وهو ما إلتزم به أيضاً رئيس الحكومة والبيان الوزاري، فستكون قد سلّمت رسمياً بأن لبنان لم يعد دولة، بل ساحة تُدار فيها المصالح وفق منطق الأقوى، لا منطق الدستور والحقّ والقانون.

صحيفة اللواء
من الروشة إلى بعبدا: من يشرب ميّة قرارات الدولة؟ _ صلاح سلام