رفيق خوري
ليس قتال إسرائيل، بصرف النظر عن كونه وسيلة أو غاية، سوى واحدة من مهام "المقاومة الإسلامية" في لبنان والمنطقة. حتى مواجهة أميركا والغرب والأكثرية العربية، فإنها مهام وأهداف على الطريق إلى هدف كبير قامت الجمهورية الإسلامية في إيران من أجل تحقيقه. والخلاف في لبنان على سلاح "حزب الله" ليس فقط خلافًا بين من يتمسّك به ويراه "قوة" للبنان، وبين من يصرّ على سحبه لأنه "خطر وعبء" على البلد، بل أيضًا على كل المهام المقررة له في طهران. فالمقاومة هي "هوية ووجود وإيمان، وليست موجودة بفعل الظرف بل بفعل المبدأ، والمبدأ لا ينتهي ولا يتغير ولو تغيرت الظروف" كما يقول الأمين العام لـ "حزب الله" الشيخ نعيم قاسم.
وهي، بهذا المعنى، "كيان" ثابت في بلدان متغيرة. ومشروع كامل الأوصاف يراد تحقيقه لا مجرد مشروع مضاد للأعداء والخصوم وما يخططون له. والمشروع ما عاد سطورًا وبين السطور في الكتب، بعدما أمسك الإمام الخميني بالثورة الوطنية والشعبية ضد الشاه وحوّلها إلى حكومة إسلامية في جمهورية الملالي، وبدأ العمل الفكري والعسكري والأمني والسياسي في ظل "ولاية الفقيه". وفي رأيه، فإن "الحكومة الإسلامية هي توأم الإيمان بالولاية، وهي حكومة القانون الإلهي، والحاكم فيها هو الله وحده، والمشرّع هو الله وحده". وليس ذلك سوى تنظير للحكم باسم الله في نظام ثيوقراطي على قياس الولي الفقيه. أما المشروع، فإنه يبدأ من مهمة مستحيلة هي تغيير التاريخ والعودة به مع تصحيحه إلى القرن السابع. وأما تجسيده بالمشروع الإقليمي الإيراني، فإنه برنامج طموح إلى ماضٍ آخر. وحسب الاجتهادات الفقهية، فإن مستقبل المنطقة هو قيام جمهوريات إسلامية مرتبطة بالولاية. و"العلاقات بين الجمهوريات أفقية، والعلاقة مع الولي الفقيه عمودية". أي أن الكل تحت مظلة الولي الفقيه.
لكن المشروع الإقليمي الذي شهد أوسع موجة في المنطقة يواجه اليوم الجزر والانحسار. فالفصائل الإيديولوجية المسلحة التي أسستها طهران في لبنان وسوريا والعراق ودعمتها في غزة والضفة الغربية وصنعاء تعرّضت لضربات شديدة، وفقدت القدرة على حماية المشروع والدفاع عن المركز الإيراني بعد حرب غزة ولبنان وسقوط النظام السوري. وإيران التي عجزت أو تخلت عن حماية أذرعها المسلحة، تلقّت ضربة على الرأس في حرب إسرائيل وأميركا وصار همّها الأول، الحفاظ على النظام المهدد بالإسقاط عسكريًّا، أو بالسقوط من الداخل بقوة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية العميقة، وما كان حلمًا صار كابوسًا. وحتى قبل انحسار النفوذ الإيراني، فإن العقبات أمام المشروع كانت ولا تزال أكبر منه وأقوى.
ذلك، أن قيام أنظمة دينية مذهبية إيديولوجية، في لبنان وسوريا والعراق واليمن، في القرن الحادي والعشرين، هو مغامرة خطرة وخطيرة ومحكومة بالفشل، وحروب لا تنتهي في مواجهة الأكثرية السنية العربية، والتعدد الطائفي والمذهبي، والدعوات إلى دولة المواطنة المدنية والديمقراطية، والحسابات الإقليمية والدولية التي تلتقي، برغم الصراعات والتنافس، على أمر مهم هو منع أيّ قوة من السيطرة على غرب آسيا. لا بل إن الدولة الثيوقراطية المذهبية التي هي جوهر المشروع الإقليمي الإيراني لم تكن قائمة يومًا في التاريخ الإسلامي، لا في عهد الخلفاء الراشدين، ولا في الدولة الأموية والدولة العباسية والسلطنة العثمانية. وأي محاولة لمواجهة التحوّلات الهائلة في المنطقة مصيرها الخسارة. ولا مجال بعد اليوم في لبنان لسلاح يدعي أصحابه المحليون والإقليميون أن له "مهمة إلهية". ولا لسلاح له مهمة مذهبية في بلد من 18 طائفة. ولا نجاح لأي مشروع، بسلاح أو من دون سلاح، إذا فشل مشروع الدولة الوطنية الذي هو المهمة الأساسية أمام اللبنانيين بمساعدة أشقائهم العرب وأصدقائهم الدوليين.
يضع أنطونيو غرامشي في "دفاتر السجن" مرحلة ما بعد نابوليون والحرب العالمية الأولى من فاشية وفردية أميركية في خانة "الثورة السلبية". والثورات الدينية ثورات سلبية خطيرة. والوقت حان في لبنان للانتقال من حال الثورة السلبية إلى حال الثورة الإيجابية.
صحيفة نداء الوطن