مسيرة الألف ميل وخيارات حزب الله _


العميد الركن نزار عبد القادر

بعد ما سمعه اللبنانيون في خطاب القسم، وبعد النتائج التي انتهت اليها المشاورات النيابية الملزمة لاختيار رئيس للحكومة، بات من حق كل مواطن أن يشعر بحالة نشوة وتفاؤل حول نيّة وعزم الرئيس جوزاف عون لاعادة بناء الدولة ومعالجة كل وجوه الازمة التي يتخبط فيها لبنان منذ بداية الجمهورية الثانية التي انتجها اتفاق الطائف.
لقد فتحت التطورات السريعة التي شهدتها المنطقة، وخصوصاً في كُلٍّ من لبنان وسوريا وفلسطين الباب على مصراعيه للانتقال الى مرحلة جديدة مليئة بالأمل للسير قدماً في بناء دولة القانون والاستقرار والازدهار.
بات من حق اللبنانيين ان يحلموا بأن بإمكانهم الاستفادة من البرهة الدولية المؤاتية، التي طالما تحدثت عنها في مقالاتي، كبارقة أمل للخروج من الازمة «القاتلة» واستعادة السيادة الوطنية، وبالتالي اعادة بناء الدولة الفاعلة والعادلة، واذا كان لا بد من مقارنة ما حدث يوم الخميس الماضي وأمس الاول الاثنين، فإنه يمكن القول بأن لبنان يمر بنفس البرهة الدولية المؤاتية، التي حملت المرحوم الرئيس فؤاد شهاب لتولي رئاسة البلاد وإنهاء ثورة 1958 وبدء عهد ذهبي من الاستقرار وبناء دولة المؤسسات مدعوماً من المجتمعين الدولي والعربي، نحن بأمس الحاجة اليوم لاستعادة تلك العملية الرائدة في عملية البناء والتنظيم الفعلي للدولة وتفعيل جميع الادارات والخدمات والدفع باتجاه العملية الاقتصادية، التي توصلت الى وضع مستوى المعيشة في مصاف الدول الاوروبية المزدهرة، ولم تكتفِ بتشبيه لبنان بسويسرا الشرق، بل صنفت بعض الدول مستواه المعيشي بمستوى المانيا في تلك الحقبة.
لقد تضمن خطاب القسم الذي ألقاه الرئيس جوزاف عون يوم الخميس الماضي وعوداً ورؤية مستقبلية لاخراج لبنان من ازمته المزمنة. وهو الامر الذي يختلف كلياً عن كل خطابات القسم للرؤساء الذين سبقوه في جمهورية الطائف، حيث كان ابرز الوعود بأنه لن يكو هناك سلاح في لبنان سوى سلاح الدولة والقوى الشرعية الممثلة بالجيش اللبناني والقوى الامنية.
لم يكن من المسموح به او الممكن لأي رئيس سابق ان يضع مثل هذه الرؤية للسير قدماً في بناء جمهورية الطائف في ظل الوصاية السورية (حتى عام 2000)، وفي ظل هيمنة النفوذ الايراني الممثل بحزب الله منذ خروج السوريين من لبنان وحتى لحظة انتخاب الرئيس جوزاف عون. يضاف الى ذلك بأن اي مراجعة لظروف وصول رؤساء الجمهورية والحكومة الى سدة الحكوم تؤكد بأنهم قد جاؤا نتيجة تسوية وخضوع كامل للنظام السوري او لحزب الله، وكان من الطبيعي في رأينا ان يستمر انهيار مؤسسات الدولة والبنيان الاقتصادي، مع انهيار النظامين المالي والنقدي. وبعد ما يزيد عن خمس سنوات على الانهيار الكبير الذي بدأ عام 2019 لم تستطع الحكومات من اتخاذ اية خطوة اصلاحية في المجالات السيايسة والمالية والاقتصادية، مع ارتفاع ملحوظ في مستوى الفساد.
من الطبيعي القول بأنه لا يمكن الافراط في التفاؤل اليوم استناداً الى الخطاب الاصلاحي الطموح جداً الذي استمعنا اليه الخميس الماضي، حيث انه لا يمكن توقع استسلام حزب الله ممثلاً بالثنائي الشيعي بسهولة، ولقد شهدنا بداية الغيث خلال الاستشارات النيابية لاختيار رئيس للحكومة، حيث خرج رئيس كتلة حزب الله النيابية لرفض مواكبة مسيرة العهد الجديد، والشهادة لشرعية خيارات مختلف الكتل النيابية في تسمية الرئيس العتيد القاضي نواف سلام، وتبعته كتلة التنمية والتحرير والتي عبّرت ايضاً عن رفضها للسير في ركاب التوجه السياسي الجديد الذي يشهده لبنان، والذي جاء نتيجة التطورات الدراماتيكية التي شهدتها المنطقة ولبنان خلال السنة الماضية.
نحن في بداية طريق الجلجلة سياسياً وامنياً واقتصادياً، ولكننا ندرك بأن شخصية العماد جوزاف عون ورؤيته للدولة، معطوفة على الدعم العربي والدولي تعطي الامل والرجاء بامكانية المسيرة الاصلاحية الطويلة التي وعد بقيادتها وايصال السفينة الى بر الامان.
هذه المسيرة من المؤمل ان تبدأ بعد تشكيل حكومة فاعلة برئاسة نواف سلام، وأن كل ما تحقق حتى الآن هو الشروع بوضع القطار على السكة الصحيحة، وهي عملية لن تنتهي قبل تشكيل الحكومة الاصلاحية وحصولها على ثقة المجلس النيابي، لتبدأ رحلة الألف ميل.
يبقى الرجاء ان يعيد الثنائي الشيعي وخصوصاً حزب الله حساباته لمواجهة المرحلة المقبلة، والتي ما زالت تنطوي على مخاطر تجدد العمليات العسكرية الاسرائيلية في الجنوب وفي البقاع، وذلك انطلاقاً من الغارات الاخيرة ضد مواقعه في هاتين المنطقتين، مع ضرورة اجراء تقييم استراتيجي وعلمي لنتائج الحرب، والتي ستؤكد بالمقاييس التي يعتمدها الخبراء على خسارة حزب الله للحرب وتعرضه لهزيمنة نكراء، يمكن لهذه العملية والاقرار بالهزيمة سيساعدان قيادة الحزب على التحلي بالواقعية والحكمة للتخلي عن السلاح والدخول في مسيرة اعادة بناء الدولة بقيادة العهد الجديد.
في رأينا لم يعد حزب الله يمتلك القوى التي كان يدعيها سابقاً للاستمرار في خيارات المقاومة والممانعة لدعم الهيمنة الايرانية على لبنان، كما انه لا يملك (مع ايران) الامكانات اللازمة لمعالجة الخسائر والمشكلات التي نتجت عن الحرب حيث ما زال هناك مئات الآلاف من النازحين الشيعة خارج قراهم، ومنازلهم مهدمة، وهي بحاجة لمليارات الدولارات لاعادة بنائها، هذا بالاضافة الى ان ذلك سيتطلب وجود سلطة لبنانية قادرة لاخراج اسرائيل من جنوب لبنان، ووقف عملياتها العسكرية داخل لبنان. واذا سارت الامور وفق المسيرة التي وعد بها الرئيس في خطاب القسم فإنه يمكن عندها توقع تأمين المساعدات والقروض العربية والدولية اللازمة لاعادة بناء المساكن والمرافق العامة التي هدمها القصف الوحشي.
لا يمكن لحزب الله الذهاب بعيداً في الموقف السلبي الذي عبّر عنه النائب محمد رعد من القصر الجمهوري، وأن على الحزب التعقُّل والاصطفاف مع الاكثرية الكبرى للشعب اللبناني، والتي عبّرت عن توقها للعودة الى دولة القانون ودعم مسيرة العهد الجديد.
لقد صرحت مختلف قيادات هذه الاكثرية بعدم رغبتها في استبعاد أحد وبترحيبها بمشاركة جميع مكونات الشعب اللبناني في مسيرة البناء.
في النهاية قدّم الرئيس جوزاف عون رؤية طموحة وواقعية لخلاص لبنان وبات على جميع اللبنانيين واجب دعمها، كخطوة لتأمين الدعم العربي والدولي لها بغية انهاء ازمة لبنان وعودته الى مصاف الدولة المستقرة والمزدهرة. ويبقى من واجب قيادات حزب الله دعم هذا المشروع تكفيراً عن كل الخيارات السيئة التي اعتمدوها منذ عام 2000 وانسحاب القوات الاسرائيلية من جنوب لبنان.

صحيفة اللواء

مسيرة الألف ميل وخيارات حزب الله _ العميد الركن نزار عبد القادر