رفيق خوري
ليس في الانتخابات البلدية معايير حاكمة. وكما في التزكية كذلك في المعارك: صخب لا يملأ الفراغ. كثير من الشعارات، وقليل من الجوهر. الصورة تسيطر على الفكرة، والتحالفات والخصومات تطغى على البرامج. لا التحالفات الهجينة التي تتبدّل بين مكان وآخر تحالفات بل مجرد حسابات أصوات في معركة واحدة. ولا المشهد سوى استعراض سياسي على مسارح بلدية تكون للخدمة والتنمية أو لا تكون. خلطة أحزاب وعائلات وعمل سياسي وعمل بلدي. أحزاب توحي أنّ اللعبة بيد العائلات حين تكون محشورة. وعائلات تستجير بالأحزاب عندما تنقسم على نفسها. ولكنّ العائلات مثل الطوائف أحزاب كاملة الأوصاف. وكثير من الأحزاب عائلات تتولّى قيادة كل منها عائلة أبدية، من الجدّ إلى الأبناء والأحفاد، ومن الزوج إلى الزوجة.
بعض البلديات في لبنان والمنطقة أقدم عمراً من الدولة الحديثة التي ظهرت بعد سقوط السلطنة العثمانية في الحرب العالمية الأولى. وهي، نظرياً، نوع من التمثيل شبه المباشر الذي سبقه قبل آلاف السنوات التمثيل المباشر في الدول - المدن أيام الإغريق حيث يجتمع الكل في الآغورا، أي الساحة. لكنّ مشكلة البلديات هي الدولة التي ليست دولة بالمعنى الذي حدّده أرسطو قبل أكثر من ألفي عام. أرسطو قال: «الدولة جماعة مواطنين عاقلين أحرار، لا جماعة مؤمنين». والدول التي نحن فيها جماعات مؤمنين وطوائف وقبائل وعشائر متخلّفة بالقياس، لا إلى أوروبا بل إلى دولة حمورابي والمدن - الدول في كنعان أيام الفينيقيين. وحدها مصر الفرعونية كانت النموذج المعاكس.
ذلك أن البلديات مؤسّسات تستحقّ أن يديرها المجتمع المدني، لا المجتمع الأصلي، الأفراد لا ممثلو الطوائف والعائلات. وحين تدار البلديات بالمقياس الطائفي والعائلي، فإنها تؤكد ديمقراطية العدد بدل ديمقراطية التعدّد. ولسنا بالطبع في مرحلة الانتقال من إدارة المجتمع الأهلي إلى إدارة المجتمع المدني. ولا الدولة على مسافة غير بعيدة من الدولة المدنية، دولة المواطنة. لكن الحاجة كبيرة إلى نوع من التغيير. فلا ازدهار للبلديات من دون لا مركزية واسعة جرى التفاهم عليها في اتفاق الطائف وتم إعداد آخر مشروع لها في عهد الرئيس ميشال سليمان، غير أنّ حراس المركزية المفيدة لمصالحهم يسدّون الطريق على إقرار المشروع. ولا بدّ من إجراء تعديلات على قانون البلديات تعطي لرئيس البلدية والمجلس البلدي صلاحيات أوسع، ولا سيّما في مجال اتخاذ القرارات بالنسبة إلى المشاريع التي تحتاج إلى إنفاق يتجاوز المسموح به في القانون الحالي. والأساس هو التمويل.
ولعلّ أهم إصلاح هو أن يتبع لبنان أنظمة الدول الراقية حيث يمارس كلّ الذين يعيشون في نطاق بلدية ما حق التصويت والترشح لأنهم معنيون بنجاح البلدية التي لا يزال القانون يحصر الناخبين فيها بأهالي البلدة المسجّلين في سجلّ النفوس. والإصلاح الآخر الضروري هو الحدّ من التجديد بلا قيود لرئيس البلدية، بحيث يكون مسموحاً الترؤس لدورة واحدة تدوم ست سنوات أو لدورتين فقط. فما نراه حالياً هو بلديات صارت «إقطاعات» لشخصيات تتولّى الرئاسة عشرين أو ثلاثين سنة. فمن لا يقدّم خبرته ونشاطه للعمل البلدي خلال ست سنوات أو 12 سنة لن يكون لديه ما يقدّمه مهما بقي في المنصب.
ولا معنى للتنافس على اتحاد البلديات في كل قضاء إن كان للوجاهة وليس للخدمة والابتكار. ولا شيء يجعل من اتحاد البلديات خلية عمل سوى اللامركزية الإدارية الواسعة وتأليف «مجلس القضاء».
يقول جيوسيبي دي لامبيروزا في «الفهد»: «إذا أردنا الحفاظ على الأشياء كما هي، فلا بدّ من تغيير بعض الأمور». ونحن في حاجة إلى تغيير أشياء كثيرة، لا الحفاظ عليها.
صحيفة نداء الوطن