العميد الركن نزار عبد القادر
جاءت المفاجأة الكبرى من واشنطن وعلى لسان دونالد ترامب شخصياً بأن اسرائيل وإيران قد وافقتا على «وقف كامل وشامل لإطلاق النار»، وبأنه من المتوقع أن يدخل حيِّز التنفيذ خلال ست ساعات، بعد أن يوقف الطرفان غاراتهما المتبادلة، ضمن عملية تعرف بإفراغ المتحاربين لمدافعهم من الطلقات الاخيرة. وأنهى ترامب كلامه بتوجيه تهانيه لإيران واسرائيل «على امتلاكهما الشجاعة والحكمة والذكاء لإنهاء هذه الحرب المستمرة منذ 12 يوماً.
لن يكون من السهل أو الممكن اجراء تقييم موضوعي لمسار الحرب ودور مختلف الاطراف فيها، بما في ذلك الدور الكبير الذي لعبته الولايات المتحدة بتنفيذ غارات جوية مدمرة على المراكز الثلاثة الاساسية للصناعة النووية في فوردو ونطنز وأصفهان، مستعملة قاذفاتها الاستراتيجية من طرازB2 مع قذائفها الحارقة للاعماق، بالاضافة إلى 30 صاروخ «توماهوك» أطلقت من غواصتين اميركيتين، من المؤكد ايضاً ان هناك العديد من الاسرار والتفاصيل عن مجريات الحرب ما زالت خافية، ولن يُكشف عنها في القريب العاجل، والتي تعتبر ضرورية لإجراء أي تقييم موضوعي لمسار الحرب ودور مختلف اللاعبين الاساسيين والثانويين، تمهيداً لاستخراج الدروس والعبر من هذه الحرب.
لكني أرى ان كل هذه الصعوبات لن تمنعني من محاولة اجراء تقييم أولي لهذه الحرب ومخاطرها، والتي كادت أن تُدخل المنطقة في تجربة مزلزلة، يمكن أن تطاول أمن واستقرار معظم دول الشرق الاوسط، مع كل ما كان يمكن أن تتركه أيضاً من نتائج سلبية على الاقتصاد العالمي، فيما لو استمرت إلى حين قرار ايران لتعطيل الملاحة في مضيق «هرموز»، وبالتالي قطع 20 في المائة واردات العالم من النفط الخام، كان يمكن أن تترتب على هذه الحرب نتائج وتساقطات، قد تفوق تلك التي نتجت عن الحرب على العراق عام 2003، بالرغم من التصعيد الكبير في العمليات العسكرية الاسرائيلية والايرانية الذي شهدناه في آخر ليلة من الحرب، بما في ذلك القصف الايراني على قاعدة «العديد» في قطر» والتي اعتبرتها طهران بمثابة رد على القصف الاميركي لمنشآتها النووية، وذلك بالرغم من أنها لم تتسبب بأية خسائر أميركية تذكر، فإن وقف اطلاق النار، قد طُبِّق، مع سعي أميركي وإقليمي لتحصينه، واحتواء أي خرق طارئ له.
لا بد في هذه القراءة المستعجلة لمسار ونتائج هذه الحرب ان نستطلع مواقف الاطراف الثلاثة التي شاركت فعلياً فيها، والتي يبدو أنه من الطبيعي أن لا يعترف أي منهم بأنه المنهزم أو الخاسر الاكبر.
يعتبر رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو بأن اسرائيل قد حققت أهدافها من الحرب، من خلال تدمير البيئة الاساسية الراهنة للبرنامج النووي الايراني، وبأن ايران قد أصبحت على بُعد سنوات بدل اشهر معدودة من امكانية الحصول على القنبلة النووية، وبأن اسرائيل لم تعد تشعر بالتهديد الوجودي الذي كانت تواجهه قبل الحرب.
في المقابل تشعر ايران، وبالرغم من كل الخسائر التي مُنيت بها في منشآتها النووية أو في بناها التحتية، بأنها لم تهزم، وذلك من خلال نجاحها في الحفاظ على سيادتها من خلال رفضها لطلب الاستسلام الذي وجَّهه إليها الرئيس ترامب، ودون قيد أو شرط، كما تشعر بالرضى على المعادلة الاستراتيجية التي حققتها في المواجهة العسكرية مع اسرائيل، وذلك بالرغم من التفوق التكنولوجي الذي تملكه اسرائيل، بالاضافة إلى الدعم اللوجستي والاستخباري غير المحدود الذي تلقته من الجانب الاميركي, لكن لا يمكن من أن تنظر ايران بخفة إلى الخرق الامني الكبير الذي واجهته في بداية الحرب والذي أدى إلى صدمة كبيرة بعد خسارة عدد كبير من القادة العسكريين والعلماء النوويِّين، مع التأكيد بأنه اختراق استخباراتي على مستوى القيادات الكبرى، حيث أنه لا يمكن أن تنجح اسرائيل في ملاحقة وقتل قيادات الصف الاول من خلال معلومات يقدمها عملاء عاديين بعيدين عن مواقع القيادات الهامة في الجيش والحرس الثوري أو ضمن مجتمع العلماء النووييِّن. وكان من اللافت جداً قدرة النظام على استيعاب الفراع الذي أحدثته الاغتيالات في منظومة القيادة والسيطرة وتعيين قيادات بديلة كفوءة نجحت وبسرعة من استيعاب الصدمة واستعادة المبادرة سواءٌ في الدفاع أو في الرد الهجومي على كل أنحاء اسرائيل.
أما على الجانب الاميركي فيمكن أن نسجل نجاح رئيس الوزراء الاسرائيلي في جرِّ الولايات المتحدة للمشاركة في الحرب، الامر الذي كان يسعى إليه منذ ما يقارب عقدين من الزمن. وشكل قرار الرئيس ترامب بتنفيذ عملية جراحية لتدمير قدرات ايران على تخصيب اليورانيوم بنظافة عالية، تضع ايران على عتبة امتلاك الوقود النووي الصالح لصنع القنبلة، وكان القرار الرئاسي مفاجئاً للداخل الاميركي وللمجتمع الدولي، خصوصاً وأنه جاء متعارضاً مع الوعود التي قطعها ترامب في معركته الانتخابية بحل كل مشاكل الشرق الاوسط وايجاد حالة من السلام والاستقرار الدائم، وكرر ترامب وعوده حتى اعتدنا بأنه بات فعلياً يسعى للحصول على جائزة نوبل للسلام، وظهرت ردود الفعل السلبية على قرار الحرب سواءٌ داخل الحزبين الجمهوري أو الديمقراطي، أما على الصعيد الشعبي، فقد أظهرت استطلاعات الرأي العام بأن نسبة 67 في المائة من الديمقراطيين و 61 في المائة من المستقلين و 53 في المائة من الجمهوريين تعارض العملية العسكرية الاميركية على ايران. وتفيد آخر الانباء بعد وقف اطلاق النار بأن مجلس الشيوخ سيعقد جلسة لاتخاذ قرار بشأن انفراد الرئيس في قرار المشاركة في الحرب، والذي يعتبر بأنه قرار غير دستوري.
لكن لا بدّ من تسجيل انجاز ايجابي للرئيس ترامب ومساعديه حيث نجحوا من خلال اتصالات حثيثة لاقناع القيادتين الاسرائيلية والايرانية بقبول وقف لاطلاق النار، والذي ما زال هشاً، مع بروز نزوات لدى الطرفين لخرقه، الامر الذي قد يتطلب من ترامب ومجلس الامن استعمال كامل نفوذهما لمنع انهياره كلياً.
يمكن القول بأن ترامب قد سجل حدثاً تاريخياً يمكن أن يعتدّ به كأول رئيس أميركي يستعمل قاذفة B2 في مهمة قتالية حقيقية، كما أنه أول رئيس يستعمل قنابل الاعماق GB4-57، أما لجهة مفاعيل هذه القنبلة فإنه لا بدّ من انتظار الكشف على منشأة فوردو لتقييم مدى فعاليتها ضد مثل هكذا موقع حصين.
كان من اللافت جداً تلك التغريدة التي كتبها ترامب على موقعه يهنئ فيها العالم بأنه «حان الوقت للسلام» في رأينا كان الاجدى به أن ينتظر نهاية جولة المفاوضات الجديدة (بعد الحرب) مع طهران، واستطلاع مدى جهوزيتها لوقف برنامجها النووي المتطور والذي يضعها فعلياً على طريق صنع قنبلة نووية. في رأينا أيضاً ان المعارف الذرية والتقنيات التي تمتلكها ايران بعد عقود من الابحاث والعمل الجاد باتت ملكها، ولم يعد بإمكان اميركا أو اسرائيل انتزاعها منها أو اقناعها بعدم الاستمرار في تطويرها. ومن هنا فقد بات من المستحيل وقف هذا البرنامج من الناحية العلمية والتقنية، لكن هذا الكلام لا يعني اقفال باب الحوار مع طران، والذي قد يتطلَّب توسيعه ليشمل عدة أطراف اقليمية منها مصر وتركيا والمملكة العربية السعودية، للبحث لأول مرة وبصورة جدية عن مخرج اقليمي يؤدي إلى شرق اوسط خالٍ من الاسلحة النووية.
في النهاية هناك مجموعة من المسائل الهامة والتي ستشكل قضايا اساسية في المفاوضات المقبلة مع ايران، لعل من ابرزها مصير ما يزيد على 400 كيلو غرام من اليورانيوم المخصب التي تملكها ايران – والتي تعتبر عملية البحث عنها قضية هامة جداً بالنسبة للولايات المتحدة واسرائيل. وهناك قضية ثانية هامة وبارزة بالنسبة للامن الاسرائيلي، وهي تتمثل بمستقبل ومصير الاذرع الايرانية المسلحة وأبرزها حزب الله وحماس وأنصار الله في اليمن، وبعض فصائل الحشد الشعبي في العراق. ولا بد أن تكون المفاوضات طويلة ومعقدة، ولا يمكن تجاوزها دون تقديم ضمانات واغراءات اميركية لايران، وبدءاً من رفع كامل لكل العقوبات المفروضة اميركياً ودولياً على ايران.